كنز في المدينة

TT

كان ثمة شبه كثير بين خوسيه ساراماغو ونجيب محفوظ، أقله أهمية فوز كليهما بنوبل الآداب. الشبه العظيم تجلى في أمرين: كلاهما لم يتوقف عن استلهام تاريخ بلده، البرتغال ومصر، من خلال العمل الروائي. وكلاهما لم يتوقف عن نقل حياة البسطاء والمنسيين إلى «بطولة» الأدب. تلك هي ما سماها الفرنسي بيار ميشون «حيوات صغيرة» في كتاب بهذا العنوان، وما قال عنه أندريه سواريش «يا لسوء حظه. إنه يعتقد أن حياة الناس الصغار أكثر واقعية من سواها».

لن أفتقد مؤلفات خوسيه ساراماغو، لأن أعمال الأدباء تبقى بعد ذهابهم. يتركونها خلفهم على الرفوف وفوق الأرصفة بين الكتب المستعملة، كما يترك لنا الجدود الشجر والحجارة القديمة وصفوة التجارب والأمثال. لكنني سوف أفتقد ساراماغو لسبب شخصي، بل وأناني على نحو ما.

كل يوم أبحث طويلا عن فكرة لهذه الزاوية في كل مكان. في الصحف وفي الكتب وفي المفكرات وفي المذكرات. وأحيانا يعود البحث إلى شيء. أو أعثر على الأشياء نفسها. أو أقرأ أن النائب وليد جنبلاط، الخارج قبل أشهر من حركة «14 آذار» يصف اليمين اللبناني بـ«الغباء». أو أقرأ أن «مصدراً ليبياً رفض الكشف عن هويته» يهاجم وزيرة خارجية سويسرا لأنها «لا تعرف كيف تستخدم التعابير اللائقة». تبا للسويسريين ولغتهم الخالية من اللياقة والكياسة والأدب الرفيع في مخاطبة الآخرين. هل لهم بدروس خصوصية في أصول اللياقة والكياسة والتعابير الرفيعة.

سوف أفتقد خوسيه ساراماغو لأنه لن يكون له موقع بعد اليوم. ومن ذلك الموقع الإنساني والأخلاقي كنت أستلهم أفكارا كثيرة. وأعترف أن ساراماغو كان يدلني على أشياء كثيرة حتى في الشؤون الفلسطينية. كان موقعه عبارة عن مفكرة بسيطة عن حياة بسيطة، هو وزوجته الرفيقة الظاهرة في جميع الصور والذكريات والملاحظات والمواقف. ربما لم يكن شيء أقرب إليه منها سوى لغته.

اللغة التي أعادها هو إلى لعبة اللغات. أحيا جمالياتها وبحث عن شعرائها وجعل من أعزهم وأجملهم، فرناندو بيسوا، موضوع رواية أسطورية. وقد كان بيسوا حقيقيا مثل جميع الناس الصغار. موظف بسيط في المدينة مثل نجيب محفوظ، فلما اكتشفته المدينة ذهلت من حجم الكنز، وقررت أن تنام على بابه.