مع الفنان السعودي

TT

غيب الموت الأسبوع الماضي وجها جميلا من وجوه الفن السعودي القديم، الممثل والمثقف عبد العزيز الحماد، واحتفت الصحف السعودية في صفحاتها الفنية بخبر وفاته وقدوم جثمانه من أحد مشافي أميركا، بعدما اهتمت الدولة به، الراحل كان من الجيل الأول الذي حفر في الصخر في بيئة لا ترحب بالفن وسط البلاد، ولكن أصر وكافح ودرس الفن في أميركا وعاد وساهم في جملة من الأعمال الفنية الرائدة، وكان بشوشا للآخرين ومحبا لتقديم خبرته للجيل الجديد. حسب شهادات الكثيرين.

وقبل ذلك بعدة أسابيع شاع خبر نقل فنان اليمن الكبير، بل عمدة المغنين للتراث اليمني المتنوع، محمد مرشد ناجي، أو «المرشدي»، كما يناديه جمهوره تحببا، إلى المستشفى الخاص برئيس الجمهورية، وقد تأثرت كثيرا لهذا الخبر بسبب شغفي بأعمال هذا الفنان المثقف صاحب الوعي الفني والمؤلفات الخاصة به. ببساطة لأنه «شيخ» هذا المجال الخاص، خارج اليمن، فهو بشكل ما جزء من الفن السعودي، باعتبار النبع اليمني من أكبر ينابيع تشكيل الأغنية السعودية، يكفي أن نتذكر فقط الفنان الضخم أبو بكر سالم بالفقيه في هذا السياق.

وقرأت حوارا صحافيا هذه الأيام نفض غبار السنين وأعادني إلى عهد الطفولة، حيث نشرت صحيفة «عكاظ» السعودية الجمعة الماضي حوارا على صفحتين، مع الفنان السعودي حسن دردير، ربما لو قلت اسمه الذي اشتهر به لعرفه جل السعوديين وهو «مشقاص». كانت صورة العم مشقاص محزنة وقد أثرت به السنون، وهو يشكو المرض، ويتذكر الذي جرى في دفاتر الأيام، قرأته وتراقصت أمامي مونولوجاته الشهيرة مع حمدان شلبي، و«يا تاكسي يا طاير هدي السرعة شوية»...

الجميع يتذكر في السعودية حركة المسرح في السبعينات وأوائل الثمانيات، ومسرح «الفوطة» بالرياض وكذلك الأندية الرياضية التي كانت تقيم حفلاتها الفنية نهاية كل موسم، وتقدم فيها الفقرات الكوميدية وتقليد الأصوات وأيضا المسرح.

كان ذلك في زمن مضى قبل أن تنفجر الفضائيات، وينحسر المسرح الوليد، تلقى المسرح قبل ذلك ضربة أقسى وأقدم، وهي ضربة ثقافية واجتماعية تجلت بتدنيس الفن والهجوم عليه بوصفه محرما أو مصدرا للفسق والانحراف، ساعد على ذلك هشاشة البنية المسرحية والفنية الناشئة، هذه الهشاشة التي لم تمكنها من الصمود في وجه هذه الرياح.

استمرت رياح التجريف والتصحر الجمالي والفني قرابة ثلاثة عقود من الثمانينات فالتسعينات وشيء من الألفية الجديدة. ولكن بدأت تفقد عنفوانها، مما جعل براعم الفن والجمال تطل بزهورها الصغيرة من جديد، ولكن مسرح المجتمع جرت فيه تغييرات كثيرة، ونتائج التقنية الإعلامية والثورة الفضائية أجرت في ساقية المشاهد مياه كثيرة.

بالعودة إلى الفنان السعودي «مشقاص» نجده يشير إلى جانب من جوانب المعاناة التي كان يشعر بها كفنان، تحدث في لقاء عكاظ عن قضية منازعة تجارية له مع أحد الخصوم، تتعلق بعقار معين، فيشير إلى تكتيك اتبعه خصمه معه في ساحات القضاء الشرعي للإضعاف من موقفه، يقول عن خصمه في القضية: «رفع علي 12 قضية في المحاكم وكان يكتب في دعاواه رجل الأعمال ويكتب عني الفنان، لحساسية كلمة (الفنان) عند القضاة، لقد عانيت كثيرا من رؤيتهم لهذه الكلمة».

ليس الأمر مختصا بهؤلاء الذين عانى منهم الفنان حسن دردير، وليس مهما إن كان كسب القضية أم لا، أو كان هو صاحب الحق أم لا في قضيته، فذلك شأن آخر. المهم في هذا السياق هو الإشارة إلى معاناة الفنان في منظار المجتمع. والغريب أنه، أي الفنان، مطلوب وضروري، سواء لخلق المتعة والفرجة للجمهور العام، أو لتوظيفه من أجل تمرير رسائل اجتماعية أو سياسية معينة، بوصفه محبوبا ووسيطا مقبولا لدى المتلقي، ناهيك عن طلب المجتمع الراقي له من أجل إحياء الليالي الممتعة، كما كان الأمر يحصل في بلاطات النبلاء والوجهاء في أوروبا وبلدان المشرق المتحضرة سابقا مثل مصر وغيرها.

لكنه ورغم هذا الطلب المستمر والحثيث، يلقى إقصاء ونظرة دونية في كثير من الأحيان!

وكنت سألت قبل نحو ست سنوات، في هذه الصحيفة، أبرز روائي سعودي، وهو عبده خال، ومسرحي سعودي شهير، هو محمد العثيم، عن تفسيرهم لهذه النظرة المزدوجة للفنان في السعودية، وربما في غيرها من البلدان العربية: رفض وقبول، احترام وازدراء، فخر وإحراج، فأجاباني بما حاصله العودة إلى تاريخ نشأة الفن في العالم الإسلامي والعربي، فهناك من رأى المطربين إنما ازدهروا في قصور الخلفاء والوزراء في بغداد ومصر والأندلس، وكانوا معزولين عن المجتمع، وبطبيعة الحال لم يكن هناك اتصال حميمي بين السلطة والناس، فتم النظر إلى طبقة المغنين باعتبارهم جزءا من مؤسسة السلطة والقهر.

أمر آخر، نجده في كتاب «الأغاني» للأصفهاني، وهو أنه كانت تمتزج بغناء العهد العباسي أمور تتعلق بالعربدة والمجون، فارتبط هذا بذاك، إضافة إلى موقف الفقهاء، أو غالبية الفقهاء للدقة، الرافض للفنون، وموقف أعمق من هذا كله، هو حداثة الفن على الذائقة العربية، الفن الجديد بما يصاحبه من آلات موسيقية ومؤثرات لحضارات أخرى. وغير ذلك من الأسباب القديمة.

أما حديثا، وفي السياق السعودي القريب، فقد كان للهجمات المنهجية والمكثفة من قبل التيار الأصولي أثرها في القضاء على البقية الباقية من قبول الفن، وتعويض الطلب الجمالي العميق لدى الإنسان، بـ«فن إسلامي» من أناشيد ولوحات تمثيلية وعظية.

وكما قلت حينها، فغريب شأن الفنان لدينا. هو مطلوب ومرغوب، ونجم يتهافت عليه أفراد المجتمع، وربما تباهى البعض بأنه قد جالس ذلك الفنان أو تبادل معه بعض الأحاديث، ولكنه في نفس الوقت يحمل قدرا من الرفض المبطن له، وعليه فقد أخفق الفنان في تحقيق قيمة اجتماعية في الوعي الجمعي.

كيف يجتمع ذلك. طلب ورفض في نفس الوقت؟ على عكس الحال في المجتمعات الغربية مثلا، فالفنون وأرباب الفنون يحظون بتقدير لافت، ومكانة توازي مكانة العلماء الكبار والسياسيين العظام.

فهل الوعي الجمعي المحلي، وبفعل الضخ المتواصل من قبل أعداء الفنون من المحافظين، كرس صورة نمطية للفنان المبتذل المنفلت من كل ما يمت بصلة للمجتمع. لكن هل هذه الصورة النمطية تعكس بالفعل واقع الحال؟ وهل كان الفنان العربي دوما منفصلا عن النشاط الاجتماعي والسياسي والتأثير فيه، واتخاذ المواقف الوطنية والقومية، والإسهام في الإصلاح الاجتماعي. فتاريخ الفن في مصر يحدثنا عن الفنان عبده الحامولي (توفي 1901) الذي كان من الأصوات المناهضة للاستعمار وممن فرض على الجمهور احترام فنه وشخصه. وكان، كما تقول سيرته، يتوقف في طريقه حينما يرى بائعات الهوى ويوزع عليهن المال وينصحهن برفق بالكف عن هذا السلوك.

للمفكر المصري الراحل فؤاد زكريا مقالة جميلة نشرها في كتابه عن الخطاب العربي، أشار فيها إلى أثر المحضن الفني في النظرة للفن والفنان نفسه، وكان يتحدث على وجه الخصوص عن الموسيقى والفرق في النظرة إليها بين الشرق والغرب، الموسيقى الكلاسيكية طبعا.

الآن، ربما تختلف الصورة بسبب اختلاف الظروف، بل ربما كان المجتمع السعودي يخفي الآن طاقات فنية وتحفز للتعبيرات الجمالية، بعد أن أعيد ترتيب المسرح العام..

سلاما لعبد العزيز الحماد وبكر الشدي وطلال مداح ورفاقهم ممن حفروا في الصخر وشقوا الدرب.

أخيرا.. ليت وزارة الثقافة والإعلام، تشمر عن سواعدها لإطلاق زخم الفنون كلها في المجتمع، حتى تزيد جرعة الجمال الإنساني، الذي هو ترياق مجرب في جعل الحياة أفضل وأبهى، وحينما نقول الفن السعودي فنعني الفن الذي ينبع من أسفل القاعدة.. من المسرح المدرسي ومن أندية الأحياء، والمراكز الصيفية، ولا نعني «بزنس» الشركات الإعلامية والإنتاجية، فهذا شأن آخر..

[email protected]