بطولة في بطولة

TT

أتابع كالملايين حول العالم مباريات بطولة كأس العالم لكرة القدم التي تستضيفها جنوب أفريقيا، وأحاول أن أفهم البطولة كتفسير للواقع العالمي، والاستفادة بشكل آخر أكثر من المتعة الكروية والترفيهية. فهناك واقع أوروبي حزين ينعكس على الأداء الفني الكروي الفقير للفرق الأوروبية، وتخبط إداري واضح في إدارات فرقها. فالنتائج البائسة والعروض السلبية لعتاولة الكرة الأوروبية توضح أن الوضع هو انعكاس للحالة المتخبطة التي تعيشها القارة الأوروبية نفسها جراء الأزمة الاقتصادية الهائلة التي عصفت بها، ولا تزال تعاني من تبعياتها السياسية المؤلمة. وليس هذا كل شيء فحسب، ولكن الآلام الاجتماعية المؤلمة هي أيضا كان لها نصيب في الحالة الأوروبية بجنوب أفريقيا.

المنتخب الفرنسي ظهر بشكل مخيب للآمال، ولا علاقة له أبدا بالفريق الذي فاز عام 1998 وبهر العالم وكان مثالا ناجحا وواجهة مبهرة لفرنسا الجديدة. ظهر الفريق بلا روح وبلا انسجام، وبنفوس مليئة بالغضب نتاج التفرقة العنصرية والمحسوبية التي باتت سمة الفريق الفرنسي، وتجلى كل ذلك في الإضراب عن التدريب، والتعدي اللفظي على المدرب، واستقالة المسؤول الأول عن الكرة الفرنسية، وهروب مدرب اللياقة، وطرد أحد أهم النجوم في مشاهد تبعث على الذهول.

وها هو الفريق الإنجليزي يظهر هو الآخر بشكل مهلهل وضعيف وممزق، نجوم فرادى لا علاقة لهم بروح الفريق، وبعدم احترام جاد لخطط مدربهم، انعكس على التصريحات لقائد الفريق وردة فعل الصحافة الإنجليزية والجمهور الغاضب.

إيطاليا ظهرت كعجوز أنهكها الزمن، ومدرب يعتمد على الإرث القديم، ويعيش حالة إنكار لما يحدث على أرض الواقع، وكذلك الحال بالنسبة لألمانيا الرصينة، تألقت مرة واحدة، وأفل نجمها سريعا، وطرد نجمها، وإن كان منتخبها الذي بات أهم نجومه من أصول أفريقية وبرازيلية وتونسية وتركية، وهو وحده «خبر» يؤكد حجم التغيير في البلد الذي صدر أسطورة العرق الآري الحمقاء، ولعل ذلك يكون درسا لمروجي حماقات صفاء العروق، وغير ذلك من الخزعبلات!

وفي أوروبا ظهرت في هذه البطولة أوروبا «الأخرى»، أوروبا الشرقية غير المنهكة من الأزمنة وسياساتها، فتألقت سلوفينيا وجمهورية التشيك وصربيا بعروض عقلانية مستقرة، وأداء معقول جدا، وكذلك تألقت أوروبا المستقلة متمثلة في سويسرا وصدمتها لإسبانيا التي كانت على رأس الدول المرشحة لنيل اللقب، ولكنها قدمت هي الأخرى عرضا باهتا سيئا، مثلها مثل الدنمارك المملة. والوحيدة من دول أوروبا العتيدة التي تواصل الأداء بجد وجدية هي هولندا، وإن كانت السمعة الهولندية على أنها غير قادرة على «إتمام» المهمة ستظل تلاحقها حتى تنال اللقب بجدارة!

وعلى الصعيد الآخر هناك دول الاقتصاديات الجديدة التي تتألق وتتعملق.. فالمنتخب البرازيلي المنتشي بأداء بلاده المتميز اقتصاديا، الذي يحتل المرتبة العاشرة حول العالم، يواصل إبهاره بثقة وقوة، ويتبعه في ذلك منتخبات أميركا اللاتينية، كتشيلي والأرجنتين والمكسيك وباراغواي وأورغواي. وهناك أهم دول أفريقيا «الجديدة» من ناحية الاستقرار السياسي والتألق الاقتصادي، والملقبة بالنمر الأفريقي، والمقصود طبعا «غانا»، هي أيضا قدمت أداء ثابتا يعكس جدارة وضعها وثقتها في نفسها، بينما كان الإخفاق والتخبط من نصيب جنوب أفريقيا والكاميرون ونيجيريا وساحل العاج، وتبقى النتيجة قائمة ومفتوحة قبل الحكم النهائي على المنتخبات الأخرى، وإن كان هناك بعض ملامح «التمثيل المشرف» لنيوزيلندا والجزائر وكوريا الجنوبية، والملل بحق الهندوراس وأستراليا وكوريا الشمالية واليابان.

البطولة الحالية «غريبة» في أحداثها وتطوراتها، والأبعاد الدرامية غير مسبوقة، والإثارة لا تزال في أولها، ولكنها حتما بطولة معولمة، بطلها وسائل الاتصالات، وحجم المعلومات المتناقلة يجعل البطولة وما وراء البطولة سباقا على الترفيه والتثقيف والاستمتاع.

[email protected]