المناظرات الكبرى في أميركا

TT

ليس سهلا أن تذهب وتعود من الولايات المتحدة خلال أسبوع دون أن تستمع وتقرأ كما هائلا من المعلومات، والأهم وضعها في سياق مناظرات كبيرة تحكم المجتمع، أو تحاول أن تحكمه، إذا شئت. والحكاية أنني وصلت في مهمة عمل وقت أن كانت أميركا تجرب حظها في كأس العالم لكرة القدم مع إنجلترا، بينما كان الشاطئ الجنوبي الشرقي للولايات المتحدة يتعرض لأكبر كارثة صنعها الإنسان هذه المرة نتيجة تسرب النفط من بئر بحرية، بعد كارثة أخرى كانت الطبيعة قد خلقتها ممثلة في إعصار كاترينا الذي دمر الولايات الأميركية الواقعة على خليج المكسيك. ومن هول الكارثة كان على الرئيس الأميركي باراك أوباما أن يوجه خطابا تلفزيونيا مباشرا للشعب الأميركي يصف الأمر كله بأنه «هجوم على شواطئنا» يماثل من حيث آثاره الاقتصادية والإنسانية ما حدث في الـ11 من سبتمبر 2001 عندما جرى الهجوم على برجي مبنى التجارة العالمي في نيويورك ومبنى وزارة الدفاع الأميركية (البنتاغون) في ضاحية أرلينغتون بواشنطن العاصمة.

وكما هو الحال في كل الأزمات التاريخية الكبرى فإنها لا تترك لحالها في الولايات المتحدة وإنما يتم تسكينها فورا في واحدة من المناظرات العظمى التي تحكم الدولة منذ مولدها حتى الآن. ولمن لا يعرف فإن هناك مناظرتين أساسيتين ما برحتا تتفرعان إلى مناظرات فرعية، ولكن أصولهما باقية تفرق الناس يمينا ويسارا، ولكنها في كل الأحوال تعين على تنظيم الأفكار وفرز المواقف. والمناظرة الأولى جاءت مع «الأوراق الفيدرالية» حينما رأى الكسندر هاملتون وجيمس ماديسون وجون جاي - وثلاثتهم من الآباء المؤسسين للولايات المتحدة - ضرورة أن يكون للدولة حكومة مركزية قوية يرأسها رئيس منتخب مباشرة من الشعب، ويكون لديها بنك فيدرالي يصدر عملة موحدة يكون مقدمة لسوق اقتصادية واحدة. وكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذه النظرة أن تولد دولة إمبراطورية - أي ذات مساحة وأراض شاسعة - يكون لها امتداد على البحار والمحيطات والتجارة العالمية، ومن ثم تكون مجالا للسيطرة والهيمنة، وتكون أميركا الجنوبية هي منطقة النفوذ الطبيعية. ولم يمض وقت طويل - على أي حال - حتى تمت ترجمة هذا المنطق فيما عرف بـ«مبدأ مونرو» الذي ينقل أميركا إلى العالم.

وجهة النظر الأخرى جاءت في أوراق شاعت باسم «ضد الفيدرالية» وكان نجمها الأشهر هو توماس جيفرسون، الرئيس الثالث للولايات المتحدة، الذي رأى أن دولة إمبراطورية هي دولة استبدادية بالضرورة، تقضي على حقوق الإنسان والحريات العامة، ومن ثم كان من أنصار دولة كونفيدرالية تبقي العلاقة الخاصة بين الولايات الأميركية التي شاركت في حرب الاستقلال عن التاج البريطاني ولكنها تظل على استقلالها وحريتها الخاصة. وكانت النتيجة الطبيعية لمثل هذا الفكر أن يكون دور الدولة الجديدة محدودا في الشؤون الدولية، وتبقى داخل حدودها محمية بمحيطين كبيرين - الأطلنطي والهادي ـ عن عالم ممتلئ بالشرور والمظالم.

ورغم أن المناظرة حسمت عمليا مع الدستور الأميركي لصالح وجهة النظر الأولى، فإن الحوار بينهما ظل سائدا في معظم التاريخ الأميركي، وكانت نظرية العزلة وراء نكوص أميركا عن الدخول في عصبة الأمم. ولكن مع زيادة التورط الأميركي في شؤون العالم انقسمت النظرية الأولى إلى مدرستين بدت المناظرة بينهما تمثل ثاني المناظرات العظمى ما بين المدرسة «الواقعية» التي ترى الدنيا مليئة بالشرور الواجب التعامل معها بالقوة العسكرية إذا لزم الأمر، والمدرسة المثالية التي ترى أن أميركا تمثل مشروعا أخلاقيا لا يجوز أن يبقى داخل الحدود، وإنما يمد شموسه وأقماره إلى عالم لم يعرف نعمة الحرية بعد.

النظريات الأربع تقاطعت وتفرعت كثيرا، ولكنها برزت إلى السطح كلما حلت الأزمات بالدولة الأميركية، وكان تسرب النفط في خليج المكسيك أزمة وفق كل المعايير، وكما كان الحال في الحادي عشر من سبتمبر فإن نوعية الأزمة هذه المرة كانت جديدة تماما. ولكن العدو لم يكن دولة، ولا كان الطبيعة، وإنما شركة «شقيقة» - «بريتش بتروليوم BP» - بحكم العلاقات الأنجلوسكسونية التي نمت بين واشنطن ولندن على مدى القرن العشرين بعدما ذابت وذهبت الذكريات الاستعمارية في أتون الحربين العالميتين.

هنا فإن أنصار الدولة المركزية القوية - هاملتون وشركاه - يجدون أن التعامل مع الأزمة لا بد له أن يتم ضمن العلاقات الدولية للولايات المتحدة، ومع وجود الشك الأصيل في الشركات الدولية العملاقة التي تضعف الدولة وتحاول تخطي حدودها، فإن الأمر كله يدخل في إطار العلاقات البريطانية - الأميركية، في وقت صارت أميركا تحتاج إلى التحالف الأطلنطي أكثر من أي وقت مضى. ومعنى ذلك كله أن تقود الدولة المفاوضات، كما تقود عملية التنظيف والتطهير للشواطئ والبحار، وهي التي عليها في النهاية أن تفرض الضرائب التي لا بد منها لكي يتم تحويل المنطقة مرة أخرى إلى جنة عدن كما قال أوباما.

ورغم أن أنصار النظرية الثانية ليس لديهم ذات الشك في الشركات العملاقة، فإنهم يرون عملية «الهجوم على شواطئنا» ناجمة عن تراخي الدولة المركزية في التعامل مع عالم شرير، سواء كان بريطانيا أو غيرها، ولا يمكن التعامل مع الكارثة على أي حال إلا من خلال حكومات الولايات التي هي أعلم بحالها وحال الكوارث التي ألمت بها نتيجة سياسات أعطت للخارج أكثر مما يستحق.

أنصار النظرية الأولى يرون أنه لا بديل عن التفاوض مع «بريتش بتروليوم»، والحصول منها على 20 مليار دولار، وفرض ضرائب لا تقل عن 50 مليارا يكون هدفها ليس فقط المساهمة في التخلص من آثار الكارثة، ولكن اتباع سياسة طاقة جديدة تكون ليس فقط إنقاذا للولايات المتحدة من الاعتماد على الخارج - أي منطقة الخليج - ولكن خلق صناعة جديدة للطاقة «النظيفة» تعيد أميركا تصديرها إلى الخارج. أما الثانية الفاقدة للثقة في الحكومة المركزية، فإنها ترى أن لا منطق في أن تحصل الحكومة على الأموال من الناس ثم بعد ذلك تعيدها لهم في صورة خدمات، ولكن بعد أن تقتطع منها حصة من الأموال، أو كل الأموال، لكي لا تصل الخدمات على الإطلاق، بينما يمكن لحكومات الولايات أن تقوم بالمهمة ذاتها دون دخول في هذه الدورة من التحكم.

المؤكد أن المناظرة لن تنتهي عند هذا الحد، وكما حدث في كل المرات السابقة فإن السياسة الأميركية تصل إلى نقطة وسط ما تتحرك مثل البندول بين هذه النظرية وتلك، وفي الحال يتم اختزان الواقعة داخل طرفة المناظرة، ومن بعدها تصير جزءا من المثال ووجهة النظر!