الإسهال والانقباض في السياسة

TT

نعاني الأمرّين من هذيان بعض زعمائنا السياسيين، ورحنا نصِف كلامهم بالإسهال اللغوي. ولكنه إسهال لا دواء له. على الطرف الآخر، يوجد الانقباض اللغوي، يصفونه بالاقتضاب. ينصحون الدبلوماسيين بالالتزام به. قالوا إن سائق سيارة ضل عن طريقه فسأل أحد المارة، وكان موظفا دبلوماسيا. قاله له: «أين أنا من فضلك؟». فأجابه الدبلوماسي قائلا: «أنت في سيارتك». يصفون الجواب بأنه يستوفي أركان اللغة الدبلوماسية الثلاثة. وهي الاقتضاب، وثانيا المصداقية، وثالثا ألا يضيف أي شيء جديد لما تعرفه مسبقا!

أصبحنا في هذه الأيام نعرف الكثير عن الخصوصيات والحياة الشخصية للساسة. ولكن الأمر لم يكن كذلك في ما سلف. كانوا يحيطون حياتهم بالغموض والسرية، لئلا يعرف الناس أنهم في الواقع ليسوا سوى بشر، وفي عالم الشرق الأوسط من توافه البشر. بيد أن الخدم والسواقين الذين يتعاملون معهم على المستوى اليومي العملي، كثيرا ما يلقون أضواء على تلك الجوانب الخفية من حياة الساسة والزعماء.

اشتهر بين ساسة الغرب كلمنت أتلي، زعيم حزب العمال ورئيس الحكومة البريطانية بعد الحرب العالمية الثانية بالاقتضاب المفرط وبرودة الأعصاب. روى عنه سائق سيارته، جورج، حكاية في هذا الصدد. قال إنه لسنوات طويلة كان يسوق سيارة أتلي دون أن يسمع منه أي شيء طوال سفراتهما غير «صباح الخير جورج» عندما يركب السيارة، و«أسعدت مساء جورج» عندما ينزل منها.

ولكنه في إحدى هذه السفرات سابقتهما سيارة أخرى بسرعة جنونية وكادت تلقي بسيارتهما إلى أعماق الوادي المجاور. ولأول مرة، ظهر الغضب على وجه رئيس الحكومة البريطانية فانحدر إلى مستوى الكلام السوقي العمالي: «مَن هذه الغبية الوسخة التي كانت تسوق تلك السيارة؟». فأجابه السائق: «كانت المسز أتلي يا سيدي!». وعندها عاد الهدوء إلى وجه أتلي.

«أحسن شيء أن نغلق الموضوع ونلتزم الصمت يا جورج».

وهو ما يتقنه دائما. وبعد خروجه من الحكم، نشر مجموعة من محاضراته باسم «من الإمبراطورية إلى الكومنولث». قابله بمناسبة إصدار الكتاب الصحافي المعروف بول جونسون. تذكّر صفة الاقتضاب في كلام أتلي، بل وفي سلوكه أيضا، فأعد نفسه للمقابلة بتحضير أربعين سؤالا لإلقائها على الزعيم العمالي الكبير قائلا لنفسه، إذا حصل على ثلاث أو أربع جمل على كل سؤال فستكون لديه مادة كافية للكتابة. التقاه وألقى عليه سؤاله الأول. أجابه عنه قائلا: «ما هو سؤالك الثاني؟». وفي نهاية المقابلة، أخرج بول جونسون نسخة من كتاب أتلي والتمس منه أن يكتب عليه شيئا من باب الإهداء. أخذ الكتاب واختفى به لعدة دقائق في مكتبه، ثم عاد وسلم النسخة إليه. أخذها بول جونسون شاكرا وخرج متلهفا ليقرأ ما كتبه له من إهداء خلال تلك المدة الطويلة. ما ان خرج من المكتب حتى فتح الكتاب، فلم يجد غير كلمة واحدة مخطوطة بخط مرتبك تقول: «أتلي»!