كردستان العراق.. لا هي «جيب عميل» ولا «وكر للمخابرات الإسرائيلية»

TT

استيقظت مرة أخرى وتصاعدت الحملة التي كانت بلغت ذروتها في عهد النظام العراقي السابق ضد أكراد العراق وبدأت بعض وسائل الإعلام العربية تردد المصطلحات السابقة نفسها وتصف مناطق هؤلاء بأنها «الجيب العميل»، وذلك على غرار ما كان سائدا في الإعلام العربي بمعظمه في تلك المرحلة المظلمة، حيث كانت المناطق الكردية العراقية تتعرض لحرب إبادة بلغت ذروتها بحملات «الأنفال» الكريهة المعروفة، وبعد ذلك بمحرقة «حلبجة» التي استخدم فيها علي الكيماوي الغازات المحرمة دوليا ضد أناس مدنيين أبرياء من المفترض أنهم مواطنون عراقيون.

والواضح أن هذه الحملة الجديدة استخدمت وقود نيرانها من مأزق تشكيل الحكومة العراقية حيث يعتقد الذين لا يرون أبعد من أرنبات أنوفهم أن الأكراد هم سبب هذه الأزمة وهم سبب وضع العراق على طريق الانقسام والتفكك. كل هذا مع أنه حتى أعمى البصر والبصيرة يعرف ويعلم أن سبب هذه المشكلة هو التدخل الإيراني السافر في شؤون هذا البلد الداخلية وهو انحياز بعض مكوناته السياسية إلى إيران على حساب بلدهم وأمنه واستقراره. وهذا أمر بات مؤكدا ومعروفا يعترف به حتى محمود أحمدي نجاد نفسه.

لا شك في أن الأكراد وهم يحاولون تثبيت أوضاعهم في العراق يتجنبون ويتحاشون فتح جبهات صراع مع تركيا في الدرجة الأولى ومع إيران في الدرجة الثانية، ولا شك في أنهم يسعون، من خلال الثغرات التي أوجدتها التدخلات الإيرانية في وحدة العرب العراقيين السنة منهم والشيعة، إلى تحسين مواقعهم في المعادلة السياسية العراقية تعزيزا لحق تاريخي دفعوا من أجل الوصول إلى الحدود الدنيا منه دماء زكية وعذابات مؤلمة حلت بشعبهم، وهو شعب طيب ومسالم، على مدى معظم سنوات النصف الثاني من القرن العشرين.

إن هذه مسألة معروفة، وبالتالي فإنه من حق هذا الشعب، الذي ساهم مساهمات فاعلة وحقيقية في حضارة هذه المنطقة كلها عندما كان الإسلام لا يزال في بداياته ثم في عهدي الخلافتين الإسلاميتين الأموية والعباسية، والذي أنجب أبناءه الشجعان وفي مقدمتهم البطل الأسطوري صلاح الدين الأيوبي، من حقه أن يسعى لتوحيد أمته أسوة بسعي العرب لتوحيد أمتهم وأسوة بتوحيد الإيرانيين لأمتهم الإيرانية وأن يواصل النضال بكافة أشكاله لنيل استقلاله وإقامة دولته القومية المنشودة.

إنه غير جائز، بل وعيب ما بعده عيب، أن ينكر العرب وجود أمة كردية في الوقت الذي أمضوا فيه هم نحو قرن بأكمله وهم يناضلون من أجل تأكيد وجود أمتهم العربية ودورها الحضاري وحقها في إقامة دولتها الموحدة. وأيضا فإنه غير جائز، وعيب ما بعده عيب، أن ينادي العرب بتحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطينية مستقلة للشعب الفلسطيني وينكرون على أشقائهم الأكراد هذا الحق نفسه بإقامة دولتهم القومية الواحدة في كردستان العراق وفي كردستان الإيرانية التي شهدت للحظات كأنها الحلم ولادة دولة «مهاباد» في كردستان الإيرانية.

لم تعرف لدى الأكراد، وأكراد العراق في مقدمتهم، مثل هذه النزعة القومية الاستقلالية عندما كانت هناك دولة الخلافة العثمانية الإسلامية التي وضعت تحت جناحيها، اللذين امتد طرفاهما من اليمن وحتى النمسا في قلب أوروبا، العرب والكرد على حد سواء. أما وقد كانت إحدى نتائج الحرب العالمية الأولى، بالإضافة إلى زوال الخلافة الإسلامية جغرافيا وسياسيا، بروز ظاهرة الدول القومية فإنه يصبح من حق أبناء هذا الشعب الطيب العريق أن يحصل على استقلاله في كل مناطق وجوده، وأن يسعى لتوحيد أمته المشتتة وألا يبقى يدفع وحده ثمن اتفاقيات سايكس - بيكو ويلتزم بالخرائط السياسية والجغرافية التي رسمها المنتصرون في هذه الحرب، ويحرّم عليه أن يسعى لتكون له دولته القومية المستقلة.

أما بالنسبة لقصة «الجيب العميل» والمبالغة في اعتبار أن التقاط أكراد العراق للحظة التاريخية السانحة لبناء إقليمهم على أساس الحكم الذاتي في إطار الدولة العراقية «الفيدرالية» العريضة هو بمثابة إسرائيل ثانية في الخاصرة العربية، فإنها كذبة كبرى، فالقيادات الكردية تعرف أن شعبها كما هو الآن كذلك في المستقبل لا يمكن أن يعرف الاستقرار ويبدأ ببناء دولته وبناء نفسه حضاريا وثقافيا واقتصاديا ما لم تكن علاقاته بمكونات الأمة العربية علاقات مبنية على الأخوة والتاريخ الواحد وعلى التعاون والمصالح المشتركة وعدم تدخل أي طرف في الشؤون الداخلية للطرف الآخر.

ربما على أكراد العراق، الذين يلتقطون الآن لحظة تاريخية مناسبة لاستغلالها والاستفادة منها لأقصى حدود الاستفادة لأنها قد لا تتكرر مرة ثانية لإنجاز الخطوة الأولى على طريق إقامة دولتهم القومية الواحدة، عليهم أن يأخذوا بعين الاعتبار أن الظرف لا يزال غير ملائم لإعلان دولتهم المستقلة في كردستان العراقية، لكن هذا يجب ألا يعني أن يأخذ عليهم أشقاؤهم العرب أنهم يسعون وبكل جهد يملكونه لتعزيز مواقعهم الحالية وتحسين أوضاع إقليمهم وتمسكهم بالصيغة «الفيدرالية» المطروحة التي تعني الوحدة للعراق لو أنها تترجم ترجمة حسن نوايا حقيقية.

غير صحيح أن إقليم كردستان العراق أصبح جيبا عميلا ووكرا للمخابرات الإسرائيلية، والصحيح أن أكثر العرب تزمتا وتعصبا هم الذين يدفعون الأكراد دفعا ليكونوا ضد الأمة العربية وليتخذوا موقعا محايدا بين الدول العربية وإسرائيل. ولعل ما يعزز الموقف العربي الصحيح إزاء هذه المسألة الهامة جدا استقبال خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز اللائق وكاستقبال رؤساء الدول للزعيم الكردي مسعود بارزاني، ووجود انفتاح قديم بين الأردن وهذه القيادات الكردية يعود لفترة ستينات القرن الماضي ولفترة ما قبل إسقاط النظام العراقي السابق.

ثم ولإزالة هذا الالتباس حيث لم يميز البعض بين حزب العمال الكردستاني التركي الذي نفذ مؤخرا سلسلة من العمليات المشبوهة ضد أهداف تركية، وبين أكراد العراق، فإنه لا بد من الإشارة إلى أن مسعود بارزاني بشكل خاص ومعه معظم زملائه في الحزبين الرئيسيين ضد لجوء هذا الحزب، الذي أسسه عبد الله أوجلان المعتقل حاليا في إحدى الجزر الواقعة في إسطنبول في ذروة الحرب الباردة وصراع المعسكرات، إلى العمل المسلح، خاصة أن هناك فرصة حقيقية في عهد حزب العدالة والتنمية بقيادة عبد الله غل ورجب طيب أردوغان لحصول أكراد تركيا على حقوقهم المدنية والثقافية والسياسية المشروعة.