الدولة الطرشة

TT

لدي مجموعة ممن يعلقون على مقالاتي المنشورة بهذه الجريدة أقرأهم بالجدية نفسها التي يقرأون بها مقالي، وأتشوق إلى تعليقاتهم، ومن هؤلاء مصطفى أبو الخير الذي يعلق من ولاية نيوجيرسي بالولايات المتحدة الأميركية. عاتبني الأخ مصطفى أنني كتبت عن رحلتي الأخيرة إلى مصر بأسلوب كتابة السفر، وظن أنني ربما لسبب ما، لا يعرفه، قد ابتعدت، عن عمد، عن التعليق على الأحداث الجارية، حيث قال «أود أن أرسل لك رسالة.. مفادها أن مقالاتك الأخيرة تقلقنا عليك كثيرا، وفي الوقت نفسه تحرمنا من رأيك الذي أصبح واجبا عليك بحكم المكانة التي تحظى بها في عقولنا وقلوبنا.. فلا تصر على أن تهرب منا كثيرا». مصطفى أبو الخير يرى أن الكتابة عن العوالم الخاصة هي بمثابة هروب من القضايا الكبرى، وربما له في ذلك حق، لكنني أؤكد لك يا أخي مصطفى أن كتابتي عن الصعيد لم تكن هروبا، لكن كانت لي فيها مجموعة مآرب حاولت توصيلها بشكل غير مباشر. إن الأمور الصغيرة الشخصية وكذلك مشاهدة العوالم البسيطة في القرى والتفكر فيها من صميم الكتابة السياسية، لكننا في العالم العربي نرى السياسة في ما يسميه الغرب بالسياسة العالية (high politics)، التي تتمثل في الحديث عن المؤسسات الكبرى وعن الرئاسات وعن الحروب، أما الـ«low politics» (أو السياسة اللي تحت) فهي ليست مهمة، وهذا من وجهة نظري هو الهروب بعينه من صميم ما هو سياسي في عالمنا العربي، فكيف للمرء أن يكتب في السياسة وهو يخجل من تعريف الناس بمن هو ومن أين أتي؟ كيف نكون جميعا ككتاب قادمين من عوالم كاملة لا مشكلات فيها، لا نتحدث عن قرانا وعن أهلنا، لا نتحدث عن أننا تعلمنا حتى الجامعة ولم تكن لدينا كهرباء، ومع ذلك نمجد في الدولة التي تركتنا من دون كهرباء حتى تخرجنا في الجامعة، ومن دون صرف صحي، ومن دون رعاية صحية؟ أتعلم أخي مصطفى أن مرض شلل الأطفال غير موجود في غزة مثلا التي تعتبر من أكثر المناطق عوزا ونكبة، لكنه ظل لوقت قريب في قرى الصعيد؟ وأن مرض الجزام الذي انتهى عالميا موجود اليوم في قرى إسنا التابعة للأقصر؟

أنا أكتب عن منطقة أتمنى أن يتعاطف العالم معها بالحماس نفسه الذي يتعاطف به مع مثيلاتها في أي مكان في العالم، ونطالب الناس بأن يتعاطفوا مع أطفال غزة، ويتعاطفوا كذلك مع أهالي الصعيد. أنا لا أطالب بأن يكون هذا على حساب ذاك، لكنني أطالب بأن نتعامل مع الحالتين معا، مع جوع غزة وحصارها ومع فقر الصعيد في الوقت ذاته. والحديث عن الصعيد لا يعني إهمال غزة، لكن المصيبة هي أن يظن من ينادون بإنقاذ غزة أن هذا يعفيهم من المسؤولية تجاه الصعيد.

لا أحد يعرف كيف تربينا وكيف عشنا، فأنا من أسرة كان من المفترض أن يكون فيها عشرة أفراد، مات منهم أربعة وبقي ستة، ماتوا في الصغر من أمراض عادية جدا كان يمكن علاجها، لكننا لا نتحدث عن مآسينا الصغيرة التي هي بلا شك نتاج السياسة الداخلية لدولنا ونهتم بالقضايا الكبرى فقط، كأننا نخجل من التحدث من أنفسنا. لن يكون ممكنا لدول تفشل في الداخل أن تحقق انتصارات في الخارج، مهما كان حجم كذب الآلة الإعلامية التي توظفها.

أمر آخر مقلق ما دمنا نتحدث عن جدوى الكتابة، هو أن كتاباتنا تشبه «فرح العمدة»، أي أن الجميع يطلق النار إلى أعلى في الهواء كما يفعل الصعايدة في أفراحهم، فلا يشتبك كاتب مع فكرة كاتب آخر كي يناقشها أو يطورها أو حتى ينسبها إليه ويبني عليها. الكتابة عندنا لا هي تواصل، ولا هي تراكم أفكار، ولا هي حوار، فقط هي للتباهي بالرأي، وليس للتواصل الفكري، لذا تجد كتابات الرأي في واد والسياسات العامة في واد آخر. لدينا دول كثيرة في عالمنا العربي تتباهي بما فيها من حرية رأي، لكن الدولة لا تسمع، فما فائدة الزعيق على دولة لا تسمع.. «دولة طرشة»؟ للقارئ والكاتب حرية الرأي، وللدولة حق عدم الاستماع إلى هذا الرأي. وهذا هو حال الدول الطرشة.