من سينقذ إسرائيل من نفسها؟

TT

النداء الذي وجهه أخيرا كبار المثقفين اليهود من فرنسيين وأوروبيين يستحق الاهتمام والتقدير. ويمكن اعتباره كرد فعل مسبق أو استباقي على ما فعلته حكومة اليمين المتطرف أخيرا عندما هاجمت «أسطول الحرية» الذاهب لإنقاذ غزة المحاصرة. وقد نشرته قبل أيام جريدة الـ«لوموند» ومجلة الـ«نوفيل أوبسرافتور» في آن معا. ووقع عليه كل من هنري أتلان، والفيلسوف برنار هنري ليفي، والفيلسوف آلان فنكيلكروت، والسياسي الشهير دانييل كوهين بنديت، وآخرون كثيرون. عنوان النص هو: «من أجل إنقاذ إسرائيل: دعوة إلى استخدام العقل والمنطق من أجل إيجاد حل نهائي للصراع العربي الإسرائيلي». ولكن عندما نقرؤه نفهم أنهم لا يقصدون إنقاذها من «براثن» العرب أو سواهم من المسلمين كما كان متوقعا للوهلة الأولى، وإنما إنقاذها من براثن التيار اليميني المتطرف داخل إسرائيل وخارجها. فالغلاة أصبحوا يشكلون خطرا على هذه الدولة، وعلى سلام العالم ككل. ومصطلح الغلاة هام جدا هنا. ومعلوم أنه في كل طائفة أو قومية أو جماعة، وليس فقط عند اليهود، توجد فئة شديدة التطرف والعدوانية تدعى بالغلاة. وهي فئة يعميها التعصب عادة ويفقدها صوابها. وهي تلعب على وتر الخوف والكره في آن معا. ولا تنتعش إلا في أجواء الأحقاد التاريخية. وأخشى ما تخشاه هو السلام والوئام والتعايش الأخوي بين الشعوب والأديان المختلفة. ونحن أيضا عندنا غلاة ومتطرفون. وهناك تحالف موضوعي بين المتطرفين في كلتا الجهتين. وهذا التحالف الموضوعي الجهنمي هو أكبر عقبة في طريق السلام الآن. لكن إذ نقول ذلك لا ينبغي تمييع الموضوع. فمن الواضح أن هناك غادرا ومغدورا في هذه القصة، هناك ظالم ومظلوم. والمظلوم المغدور المهان في عقر داره هو شعب فلسطين. افتتاحية جان دانييل في الـ«نوفيل أوبسرفاتور» واضحة كل الوضوح بهذا الشأن. فهو الذي استخدم مصطلح الغلاة الذي جاء في مكانه. ونفهم من كلامه أن هؤلاء المثقفين العقلاء ما عادوا قادرين على الصمت عما يجري ولا على مصادرة صوتهم ورأيهم وفكرهم من قبل الغلاة الذين عاثوا فسادا في الأرض. باختصار ما عادوا قادرين على السكوت عن سياسة الاستيطان والتوسع داخل القدس العربية والضفة الغربية في آن معا. وهم يعتبرون ذلك خطأ من الناحية السياسية، وخطيئة كبرى من الناحية الأخلاقية.

أهم كلمة وردت في النص في رأيي هي مصطلح: الخطيئة الأخلاقية. أصلا قصة فلسطين من أولها إلى آخرها ليست مشكلة سياسية، وإنما هي قضية أخلاقية بالدرجة الأولى. من هنا قوتها وديمومتها وعدم قدرة حتى الدول العظمى على طمسها.

لكن من هم الغلاة هنا؟ إنهم، بحسب ما فهمنا ذلك، اللوبي الجبار الذي يضم معظم المنظمات اليهودية في الولايات المتحدة، الذي يدعى اختصارا: بالإيباك. وهم يستطيعون أن يرعبوا حتى رئيس الولايات المتحدة. هذا من حيث الخارج. أما من حيث الداخل فيضاف إليهم اليمين الإسرائيلي العلماني والديني: أي الليكود من جهة، والأحزاب الدينية الأصولية المتشددة من جهة أخرى. هؤلاء كلهم يشكلون الغلاة داخل إسرائيل وخارجها. وضدهم صدر هذا النداء أو هذا البيان وعرض على التوقيع. بل ضدهم نشأ أخيرا لوبي ليبرالي في أميركا باسم ج. ستريت. وهو يحاول كسر احتكار منظمة «الإيباك» المتطرفة لتمثيل اليهود. كما يحاول مساعدة الرئيس أوباما على إيجاد حل عادل للصراع عن طريق الضغط على هؤلاء الغلاة بالذات. وضدهم أيضا ينهض هنا في فرنسا وكل أوروبا هؤلاء المثقفون اليهود المشهورون لكي يكسروا احتكار الغلاة المحليين لتمثيل اليهود الفرنسيين والأوروبيين. هكذا نلاحظ أن الساحة اليهودية أصبحت منقسمة على نفسها إلى قسمين واضحين متمايزين: قسم مع السلام والاعتراف بالحق، وقسم ضده. وأصبح العقلاء المستنيرون من أمثال جان دانييل وسواه يخشون من هيمنة الغلاة على القرار السياسي الإسرائيلي واليهودي ككل. فهم على ما يبدو ينظرون إلى البعيد أو بعيد البعيد، على عكس الغلاة الذين لا يرون أبعد من أنفهم.

يضاف إلى ذلك أن التيار الليبرالي اليهودي المعتدل خاف من معركة كسر العظم التي جرت أخيرا بين أوباما ونتنياهو. وهي معركة حقيقية وليست مفتعلة على ما يبدو. فالجنرالات الأميركيون أفهموا أوباما أنهم لن يستطيعوا ربح المعركة في العراق وأفغانستان ما دامت قصة فلسطين نازفة، وما دام الغرب يرفض أن يضغط على الغلاة للقبول بحل الدولتين: إسرائيل وفلسطين جنبا إلى جنب. فلا يوجد حل آخر إلا هذا الحل. إما أن تقوم الدولة الفلسطينية المستقلة القابلة للحياة وتنتهي القصة نهائيا، وإما أن ندخل في حرب مائة عام جديدة. فهل من مصلحة الشعب اليهودي الذي عانى على مدار التاريخ وبلغت معاناته ذروتها أثناء المحرقة النازية الإجرامية أن يدخل مع العرب كل العرب، ومع المسلمين كل المسلمين معركة مائة عام أخرى إضافية؟ هل من مصلحته أن يقهر ويذل شعبا آخر هو الذي عانى من القهر والذل ما عاناه؟ هل من مصلحته أن يضحي برصيده الأخلاقي الكبير عن طريق طرد الناس من بيوتهم وأراضيهم وعقر دارهم؟ هذا هو السؤال المطروح على المثقفين اليهود العقلاء المستنيرين داخل إسرائيل وخارجها. ويبدو أنهم انتبهوا لخطورة الوضع والمنزلق الذي يقودهم إليه غلاة التطرف والتهور، فكان هذا النداء. على الأقل هذا ما فهمته أنا شخصيا بعد أن قرأته ثلاث مرات متتالية. إنه كلام مثقفين مسؤولين: مثقفين يحبون التعايش مع العرب ويرغبونه ويعرفون أنه لا مستقبل سواه مهما طال الزمن. وقد حصل التعايش العربي - اليهودي في جنة الأندلس سابقا، فلماذا لا يحصل حاليا أو مستقبلا؟ أكبر خليفة عربي في الأندلس، عبد الرحمن الثالث الملقب بالناصر، كان بعض مستشاريه وسفرائه وأطبائه وحتى وزرائه من اليهود. حسداي بن شبروت مثلا، كان طبيبه الخاص ووزير ماليته. وفلاسفة اليهود اشتغلوا جنبا إلى جنب مع فلاسفة العرب وباللغة العربية ذاتها، فأغنوا لغتنا وثقافتنا. بل بعض مؤلفاتنا فقدت بالعربية فحفظوها لنا بالترجمة العبرية! وأكبر فيلسوف يهودي في القرون الوسطى، موسى بن ميمون، كان يعتبر فيلسوفا عربيا لأنه ألف كتابه الكبير «دلالة الحائرين» بلغة الضاد. وفيه وفق بين العقيدة اليهودية وفلسفة أرسطو، فثارت عليه ثائرة الأصوليين المتزمتين من بين اليهود، وحرقوا كتبه، وربما كفروه. ومعلوم أنه تأثر بابن رشد الذي فعل الشيء نفسه قبله بوقت قصير، حيث صالح بين عقيدتنا الإسلامية وفلسفة أرسطو بالذات. وكان ذلك في كتابه الشهير: «فصل المقال في ما بين الحكمة والشريعة من الاتصال». فثارت عليه ثائرة الأصوليين الإسلاميين هذه المرة وحرقوا كتبه أيضا. ولا يزالون يكرهونه حتى الآن، ويشككون في إسلامه.

لكل أصوليته! فلماذا لا تتشكل إذن أندلس جديدة مزدهرة في حوض البحر الأبيض المتوسط كما كان يحلم جاك بيرك؟ أما آن لهذه القصة الجهنمية، التي دمرت مستقبل أجيال وأجيال وأطفأت النور في عيونهم، أن تنتهي؟ نعم، إن غلاة الاستيطان والعدوان أصبحوا يشكلون خطرا على أنفسهم وعلى المنطقة والعالم بأسره. هل نعلم بأن الغلاة الفرنسيين كادوا أن يدمروا مستقبل فرنسا إبان حرب الجزائر؟ انظروا إلى منظمة الجيش السري الإرهابية المرعبة التي كادت أن تغتال الجنرال ديغول أكثر من مرة بسبب سياسته الحكيمة البعيدة النظر. ولولا وجود شخصية تاريخية في حجمه ومستواه على رأس البلاد لغرقت فرنسا كليا آنذاك في مستنقع الحرب الكولونيالية اللاأخلاقية ولفقدت هيبتها واحترام المجتمع الدولي لها. فأين هو ديغول إسرائيل؟ أين هو ديغول اليهود؟ لقد أنقذ ديغول فرنسا من نفسها. فمن سينقذ إسرائيل من الغلاة؟ من سينقذها من نفسها؟ هذا هو السؤال المطروح الآن، وبإلحاح.