القسم باللغة الكردية ودلالاته الرمزية في البرلمان العراقي

TT

لأول مرة يؤدي الأعضاء الكرد في مجلس النواب العراقي قسمهم الدستوري باللغة الكردية. وهو أمر طبيعي؛ ذلك أن اللغة العربية واللغة الكردية هما اللغتان الرسميتان للعراق حسب البند أولا من المادة الرابعة من الدستور، وهي أحد المبادئ الأساسية في الدستور. ومعنى هذا أنها تسري على كل الأبواب والفصول ومنها ما يتعلق بالسلطة التشريعية.

لهذا تقبله العراقيون نوابا وشعبا وجماهير بأريحية شاملة إلا من ندر، والنادر يوصف بالشذوذ وبالسباحة عكس التيار، ولا يفرد بالحكم. وهذا ما لم يحصل في مجلس النواب التركي في حينه؛ عندما أقسمت النائبة الكردية ليلى زانا ورفاقها باللغة الكردية، وكانت بمثابة قنبلة فجرت طاقات هائلة مختزنة في مشاعر شعب يبحث عن الوجود.

والفارق بين الوضعين أن كردستان العراق؛ بل الشعب الكردي في العراق لم يعرف إشكالية اللغة منذ تأسيس العراق الجديد في عشرينات القرن الماضي؛ بل كانت اللغة الكردية في الجامعات العراقية والكردستانية العراقية مركز إشعاع لتطوير اللغة الكردية وآدابها، وكان الأمر بعكس ذلك في تركيا وغيرها.

فما مرت القضية الكردية في العراق بإشكالية اللغة أو بإشكالية الوجود، فقد ألحقت كردستان وهي المساحة الأوسع من ولاية الموصل بالعراق في منتصف عشرينات القرن الماضي؛ وهي بكامل أهليتها الراشدة، ولكنها منذ ذلك اليوم تمر بإشكاليات سياسية كبرى اختفى بعضها وتعقد بعضها الآخر من عهد إلى عهد وأخطرها ما مرت به في فترة قاسية من عهد النظام البعثي الديكتاتوري السابق، وبعضها لا يزال مستفحلا رغم تحول النظام العراقي إلى نظام ديمقراطي تعددي، واعتراف الدستور العراقي (بموجب «المادة 117 – أولا» منه) بإقليم كردستان وسلطاته القائمة إقليما اتحاديا.

كان الاستقلال الذاتي أهم تلك الإشكاليات السياسية، وهو يمثل الدرجة الدنيا لحق الشعوب في تقرير مصيرها، وقد بلغت كردستان العراق هذه المرحلة الآن بفضل تضحيات شعبها الجسيمة وتقدير جماهير واسعة من الشعب العراقي لهذه التضحيات، وهي تتمتع الآن في ظل نظامها الفيدرالي الدستوري بأوسع الحقوق وبأوسع اعتراف وطني وإقليمي ودولي في المجالين الدبلوماسي والاقتصادي. وإن الإشهار في مجلس النواب عن وجود شعب آخر ولغة أخرى غير العربية، وهو ما عناه في الظاهر قسمهم باللغة الكردية، لا يتجاوز ما هو تحصيل حاصل فقد قطع الوضع الكردي في العراق هذا الشوط منذ زمن بعيد.

وإن الإشكال الأساسي المهم الذي لا يزال يشكل التحدي الأخطر لكردستان العراق هو تنامي الرفض بين أوساط عربية في العراق لأي حديث إيجابي عن حدود كردستان الطبيعية رغم وضع الدستور آليات محايدة لتعيينها، وكان هذا هو السبب لعرقلة تنفيذ المادة 140 من الدستور.

وأغلب ظني أن المقصود بالقسم الكردي لم تكن دلالته الظاهرية؛ بل معانيه الرمزية والمجازية التي أقربها إلى الذهن استهلال عملهم البرلماني بإشهار التحدي الحاسم لهؤلاء المتصدين بإصرار لفكرة الحدود الطبيعية الثابتة لإقليم كردستان؛ بالإضافة إلى دلالات مجازية أخرى لم تغب عن أذهان ممثلي الشعب الكردي في البرلمان العراقي، أهمها إشاعة ثقافة التنوع الثنائي الرئيسي في الفلسفة العامة للحكم في العراق، أي شراكة العرب والكرد، كما جاء في دستور الزعيم الراحل عبد الكريم قاسم دون الانتقاص من مكانة أي مكون آخر، وتأكيدهم تعميق خصوصياتهم، ومعالجة المشكلات التي حالت حتى الآن دون عودة المناطق المستقطعة إلى إقليم كردستان.

ومهما يكن التفسير فقسمهم باللغة الكردية استهلال بديع يعبر عن أخلاقيات الالتزام بالشراكة العربية الكردية لا في جني مغانم ثروة العراق لمصالح فئوية؛ بل في تحمل المسؤولية لإنهاء معاناة الشعب العراقي الذي تحمل القهر والحرمان والغربة المذلة أكثر من أي شعب آخر.

والحق أن لغة القسم لا تشكل أي إحراج؛ بل الإحراج الحقيقي يكمن في المقسم عليه الذي أتى بلغة الحاضر لا بصياغة المستقبل، فهم جميعا - عربا وكردا وتركمانا وغيرهم - أقسموا بالله العلي العظيم أن يؤدوا مهماتهم (أؤدي مهماتي)، وفعل «أؤدي» فعل مضارع للحاضر حقيقة. والمفروض أنهم فور انتهائهم من القسم يتوجهون إلى أداء مهماتهم الدستورية، ولم يفعلوها، ولا تسمح الصياغة الدستورية للقسم الذي جاء في الدستور بصيغة الحاضر بتأجيل المقسم عليه، فالنائب لم يقسم على أنه سيؤدي أو سوف يؤدي.

فهل عند المحكمة الاتحادية العليا ما يرفع الحرج؟

وهل لدى دور الإفتاء المتعددة والمتنوعة ما يعفيهم من كفارة اليمين؟

* عضو مجلس النواب العراقي السابق