أمة.. أمية

TT

لمن لا يزال يشكك في تأثير وقوة وفعالية وسائل الاتصالات الجديدة، فليقرأ باقي هذه السطور!

كانت قوى الشتات (وهي عناصر إثنية مشكلة من مجاميع في المهجر حول العالم تقوم بوسائل الضغط على الحكومات الغربية لإصلاح أوضاعها) هي أهم عناصر اللوبي التقليدي في الغرب عموما، والولايات المتحدة الأميركية تحديدا، وأبرزها مجاميع اليهود والأرمن واليونانيين والبولنديين والسريلانكيين التاميل. ومع نمو الدول القطرية واتساع رقعة «قانون العولمة» كان هناك اعتقاد أنه لا مجال للحراك الإثني الجديد - القديم، وأن كل المطالب القديمة إلى زوال. ولكن التقنية الحديثة أثبتت أن هناك قلبا ينبض في الجسد الإثني القديم! فها هم الآيرلنديون يتحركون مجددا، واليونانيون كذلك، ولكن المثل الأكثر إدهاشا هو المتعلق بالشركس. الشركس يتحدرون من دولة قديمة استولت عليها روسيا القيصرية في نصف القرن التاسع عشر، وفقدت بالتالي نصف تعداد سكانها البالغ وقتها مليوني نسمة. تسعة من كل عشرة من الشركس يعيشون اليوم في الشتات، وهاجروا بشكل رئيسي إلى أركان وبقاع دولة الخلافة العثمانية الواسعة. فقط منذ فترة العشرين عاما الماضية كانت أعدادهم في انحسار وفقدوا قدرة التواصل بسبب القهر السوفياتي. اليوم وفي عصر الإنترنت والـ«فيس بوك» والـ«تويتر» والهواتف الذكية، مكنت كل تلك الأدوات أن يعاد للشركس صوتهم، فتجمعوا في ندوات واعتصامات في برلين واسطنبول ونيويورك ولاهاي وواشنطن لإحياء الذكرى الـ146 لما يطلقون عليه اسم «المذبحة»، وسيواصلون رفع معدلات المطالبة بالتعويض من المجتمعات الدولية حتى يحيوا الذكرى في سوتشي نفسها - وهي الموقعة التي حدثت فيها المذبحة الكبرى بحقهم - خلال الألعاب الأولمبية عام 2014. وقوة وسائل الاتصالات الحديثة المدهشة لا تكتفي بإحداث الأثر السياسي على حياة أهل الشتات، ولكنها بالنسبة للشركس كانت سببا في «الحفاظ» على تراث ثقافي مهم على الـ«يوتيوب»، فأصبح بإمكانهم متابعة أشعارهم وموسيقاهم وأغانيهم ورقصاتهم وكذلك طبخهم. وكذلك حفظت اللغة الشركسية التي كانت مهددة بالانقراض، كما تمكنوا من إصدار شهادات تعليم وتدريب على الإنترنت لمهارات وقدرات باللغة التي توحد فيما بينهم، وهناك الكثير من الإثنيات الأخرى التي تستثمر وتستفيد من نتاج تواصلها عبر الفضاء. فأوكرانيا تمكنت من جمع الأموال وتشييد الجامعات عبر فضاء الإنترنت في شكل موحد للجاليات الموجودة في الشتات بديلا عن فوضى سياسة أوكرانيا الحقيقية على أرض الواقع. الوسائل الإلكترونية هي الأخرى مكنت كثيرا من اللغات التي شارفت على الاندثار من العودة من جديد، لغات مثل اليديش التي يتحدث بها يهود أوروبا الشرقية، واللغة اللاتينية. اليوم كثير من جمهوريات آسيا الوسطى والأقليات الإثنية بالصين وروسيا وبعض الأفارقة وأوروبا الشرقية وأميركا الجنوبية وحتى الهنود الحمر يلجأون للإنترنت كساحة خلاص وساحة بقاء أخيرة، لا قيود ولا جبروت «المستعمر» ولا هيمنة المنتصر ليزيل هويتهم ويسحقهم. عجائب الإنترنت والعالم الإلكتروني لا تتوقف، وعلى عكس ما يروج له أن الإنترنت لم تأت للناس إلا بما هو ضار وخبيث، هناك كثير من الفوائد والإنجازات المهمة التي تحققت لأمم وشعوب وقبائل وأفراد. ولكن عربيا لا يزال حجم الاختراق والاستخدام لهذا العالم الأخاذ هو الأدنى عالميا، وهذا عائد في المقام الأول للأمية والجهل اللذين بطبيعة الحال يساعدان على بقاء الأمية الإلكترونية.

[email protected]