ناس أتراك.. ناس ألمان

TT

يطيب لي أن أؤرخ عودتي إلى لبنان من الهجرة - هذا إذا كانت الهجرة حقا هجرة، والعودة فعلا عودة - بدورة كأس الكرة. فقد صادفت رجعتنا إلى الوطن العزيز عام 1998 مع دورة ذلك العام الميمون. ذهلت إذ رأيت ما رأيت. كل شرفة من حولنا عليها علم بلد ما، إلا طبعا علم لبنان، لأنه غير مؤهل إلا لملكات الجمال. علم ألمانيا وعلم البرازيل وعلم التوغو وأعلام كل الدول الأخرى.

وهذا العام السعيد أدركت أنه مضى على رجوعنا إلى الديار العزيزة والربوع الحبيبة دزينة كاملة من السنين. أفقت ذات صباح وقمت إلى الشرفة، فرأيت الشرفات من حولنا أعلام أعلام. برازيل على أرجنتين على غانا. ولم يكتف مواطنونا هذه الدورة بتزيين الشرفات، فرفعوا الأعلام على السيارات، وطفقوا يصفقون ويهزجون. يونان على إسبانيا على إنجلترا على فرنسا، طبعا قبل خروجها من صفوف المؤهلين.

كان عمر الزعني أشهر شاعر شعبي ساخر في لبنان. وقد كتب يسخر من طباع اللبنانيين ومن أحلامهم وأوهامهم وحروبهم وانتصاراتهم الافتراضية، وكأنه كان حاضرا ذلك النهار من 1946 على شرفتنا، أو أي شرفة أخرى:

كلنا بالظاهر إخوان وبالباطن أشكال ألوان

ناس إنجليز، ناس طليان ناس أتراك، ناس ألمان

شهر كل أربع سنوات، ينسى فيه اللبنانيون صراع الأمم، ويغرقون في سبات الوهم وسباق الملاعب. يقهرون بعضهم البعض بأقدام الأرجنتين، ويرفعون في وجه بعضهم البعض حذاء رينالدو ورونالدو واوسفالدو. إحدى دعايات العصر الإذاعية يقول صاحبها لصاحبه: «ولاه، على شو محمس لفرنسا؟ صر لك سنتين طالب فيزا وما عم يردوا عليك».

أجمل طريقة للنسيان الجماعي هي في الانضمام إلى عشرات آلاف «الهتيفة»، الذين يتمسمرون في المقاهي، لكي يباهوا بقدرات الأبطال على الاحتمال، وهم ممسمرون إلى الكراسي وأنابيب النراجيل. قال عمر الزعني:

بلا عصبة بلا مجمع كل واحد إلو مطمع

والحق بإيد القوة والقوة ببوز (فوهة) المدفع

أقام وزراء الحكومة الحالية قبل شهرين مباراة «حبية» فيما بينهم، منع فيها دخول المشجعين. وذلك خوفا من نشوب حرب أهلية. ودائما تحدث حروب صغيرة في ملاعب بيروت. ولذلك الحل الأمثل هو في حروب الشرفات. تنكس أعلام الخاسرين، وترفع ألوان الرابحين. وبدل أن نهتف يحيا لبنان، نهتف فلتحيا غانا أو كوستاريكا.