الشعبوية بين الكوميديان ورجل السياسة

TT

لا نقصد بكلمة كوميديان ذلك المعنى النبيل المعروف عن ذلك الممثل الذي يجيد تقديم الأدوار الكوميدية ملتزما بأبعاد الشخصية وأبعاد العرض المسرحي بما يفرضه من احترام للنص وخطة الإخراج، وهو ما أسميه «نبل التمثيل»، بل أقصد بها ممثل الهزليات المعاصرة التي تختفي فيها الدراما ولا يبقى على خشبة المسرح سوى عدد من الشخصيات كل منهم على استعداد لارتكاب جريمة قتل من أجل الحصول على ضحكة من الجمهور. هذه الضحكة هي ما يسميه المسرحيون الـ«إفيه» والأصل فرنسي «effect»، إنها تلك اللحظة التي يتحول فيها المتفرجون إلى حنجرة واحدة تطلق ضحكة جماعية (هاااااه) بلا اعتبار لما يمكن أن تحدثه تلك الـ«هاااااه» من إفساد للعرض المسرحي. وعندما يفشل في ذلك يقال إن الـ«إفيه» «ما خدش في الصالة» وهي لحظة هزيمة مروعة للكوميديان الهزلي، إنها التركيبة النفسية الاكتئابية لكوميديان الهزليات، هو في حاجة لهذه الضحكة لكي يشعر بوجوده، وهو بالضبط ما يحدث لرجل السياسة الشعبوي، هو أيضا ممثل مسرحي يلعب دورا أمام جمهوره الذي هو شعبه، والشعوب الأخرى، غير أن الخلل النفسي الذي يعانيه بالإضافة لفزعه الدائم من لحظة نزول الستار عليه وعلى مرحلته السياسية، يفجران بداخله نفس الرغبة في الحصول على الـ«إفيه» السياسي حتى لو ترتب عليه الإضرار بمصالح شعبه، هو أيضا يبحث عن صيحة إعجاب (هاااااه) من جمهوره، ومن أجل الحصول عليها هو على استعداد للتضحية بكل حسابات العقل التي تحتم حفاظه على مصالح شعبه بإقامة علاقات من الود والنفع المتبادل بينه وبين الدول والحكومات والشعوب الأخرى، إنها لحظات يخفت فيها صوت الوعي تماما تاركا مكانه لنوازع النفس الباحثة عن صيحات الإعجاب من أجل أن تحدث بداخله قدرا من التوازن النفسي لحمايته من الوقوع في براثن الحالة المرضية.

الفنان بوجه عام والزعيم الشعبوي يعانيان من خلل نفسي غير أن الفنان على وعي بوجوده، لذلك هو قادر بذكائه وحبه للحياة، حياته وحياة من حوله، على تحويل هذا الخلل إلى إبداع فني يصنع به جسرا بينه وبين الدنيا، هكذا يحدث التوازن النفسي بداخله، أما الزعيم الشعبوي فلأنه عاجز عن الإبداع في مجاله، وهو السياسة، بما تتطلبه من برود أعصاب ووعي ومعرفة، لذلك يكتفي بجرعات من التوازن تحدثها صيحات الإعجاب من الجماهير في الشارع. وهو في الغالب جمهور تعس محاصر بالمتاعب من كل الجهات فيتحول إلى كتلة واحدة لا ملامح لها فاقدة للقدرات العقلية النقدية ما يجعلها متحمسة ومرحبة بأي كلمات فيها كراهية وإدانة لبقية دول العالم وشعوبه، وبخاصة عندما تحتوي على قدر معتبر من الانفلات والعدوان الصريح على الآخرين. المنفعة هنا متبادلة بين الزعيم الشعبوي وجمهوره، هو ينتقم لهم من الأعداء بالكلمات والشتائم، وهم في الوقت ذاته يستمتعون بأدائه البديل لعدوانهم الذي يعجزون عن تفعيله.

إن أعظم الخطباء في العصر الحديث، في ثلاثينات القرن الماضي، كانا: أدولف هتلر في ألمانيا - عمل رساما في مرحلة من حياته، كما كان متذوقا للموسيقى الكلاسيكية الرفيعة - وبنيتو موسوليني في إيطاليا، الذي كان أيضا أستاذا للأدب الروماني، الاثنان كانا من أروع الخطباء الشعبويين وكانت نهايتاهما أيضا مروعتين، هما أيضا كانا باحثين عن «الإفيه السياسي». المشكلة أن الـ«إفيه» السياسي الشعبوي أشبه بجرعات المخدر، غير قابلة للثبات، ومتعاطيها لا بد أن يزيد فيها مع الوقت، إلى أن تأتي لحظة يصدق فيها نفسه ويرتكب حماقة سياسية أو عسكرية يضيع فيها هو وبلده. من المستحيل أن يفلت الزعيم الشعبوي من مصيره تماما، كما أنه من المستحيل أن يفلت البطل التراجيدي من قدره. أما الأمر المحزن حقا فهو أن يتحول فجأة رجل دولة مستقرة إلى زعيم شعبوي، وهو ما نشاهده مجسدا الآن في شخصية السيد أردوغان، في ظروف خاصة دولية عمل «إفيه» على حساب بيريس فـ«خد» في الصالة، الصالة العربية بالطبع، فجأة اكتشف الثوريون الشعبويون العرب، زعيما جديدا طازجا يدعمون به موقفهم الذي لا يعرف أحد حقيقته على وجه التحديد، زعيما يقودهم إلى تيه جديد هم والقضية الفلسطينية، متجاهلين كل عناصر السياسة والمصلحة والنفع المتبادل بين تركيا وإسرائيل، وأن هذه العناصر هي التي ستحدد في النهاية موقف تركيا من إسرائيل. الغريب في الأمر أن بعض علماء المسلمين يطلبون منا الآن أن ندعم السياحة التركية بعد أن أحجم الإسرائيليون عن الذهاب إلى هناك، فجأة اتضح أن السياحة ليست حراما، كما يقول البعض منهم، ولكن ماذا عن بقية المجالات في تركيا؟ هل سيطلبون من الناس تعويض التجار الأتراك عن خسائرهم، أم أنهم على يقين أنه لن تكون هناك خسائر ولا يحزنون، لأن رجال السياسة في تركيا سيحرصون كل الحرص على علاقاتهم التجارية والاقتصادية مع إسرائيل.

لقد تجاهل السيد أردوغان حقيقة أن الصراع في الشرق الأوسط في جوهره يدور بين تشكيلات الدولة التقليدية في جانب، والجماعات الثورية في الجانب الآخر، بما في ذلك بلده تركيا، وهو ما كان يحتم عليه أن يتجه في حركته وسياسته أيضا إلى دعم دول المنطقة الباحثة عن السلام وعن إقامة الدولة الفلسطينية كحل وحيد للصراع العربي - الإسرائيلي. وبحكم علاقته بجماعة حماس، وبحكم علاقته أيضا بحكومة أحمدي نجاد، كان يستطيع على الأقل أن يوضح لهما أنه من غير المجدي لهما وللمنطقة وللعالم أن تتخذ أنظمتهما موقفا عبثيا من دول العالم كله. غير أنه لم يفعل، مضى في الحصول على «الإفيهات» فكانت حادثة السفينة «مرمرة». هذا مثال غريب لرجل دولة حقق حزبه لبلده الكثير من الرفاهية والاستقرار بحسابات العقل السياسية وفجأة قرر أن يتنكر لكل ذلك وأن ينضم إلى الماشين في درب الهوى.. هوى النفس.

في طول التاريخ وعرضه وفي كل المجتمعات هناك فتنة نائمة تحل اللعنة على من يوقظها، إنها اللعنة التي تسلم المجتمعات إلى الصراعات والتمزقات الداخلية لسنوات طويل، لقد استغرق الأمر سبعين عاما من الدكتاتورية والعذاب في روسيا قبل أن يعود المجتمع إلى جادة الصواب. إن كل ما يقوله ويفعله رجل السياسة ينعكس أثره على الشارع في التو واللحظة، وعندما تعلن أو تشترك في الحرب الشعبوية في جبهة تظنها بعيدة عنك، ستكتشف بعد أيام أنك أيقظت الشعبويين في بلدك.