هل هي صحوة الفاعل الغائب؟

TT

ثلاثة أحداث وقعت خلال الأسبوع الماضي وبعضها ما زال متواصلا أو ما زال في طور الاكتمال، وهي تتباين في قوتها ورمزيتها ولكنها تشير للمرة الأولى إلى إمكانية أن يؤدي الضغط «الداخلي» لا الدولي أو الإقليمي إلى تغيير سلوك الطبقة السياسية. فقد وصل مستوى المهاترات داخل الطبقة السياسية حول تشكيل الحكومة العراقية حدا منفرا من التلاعب والتضليل والتصارع، وبات حتى من الصعب فرز الصراع الجاري وتحديد قطبين له، فالكل يتصارعون مع الكل لا فرق بين من يمتلك حصة كبيرة من المقاعد أو صغيرة، والكل ينطلقون في تفكيرهم من الحدود القصوى بلا حساب لعامل الوقت ولمصلحة عليا تتجاوز الأشخاص والجماعات. لقد طرقت كل أبواب الاحتمالات إلا الاحتمال الصحيح الوحيد وهو أن من مصلحة البلد أن توجد حكومة قوية واسعة الشرعية وفعالة، قادرة على التغيير ولكنها قابلة للخضوع إلى المحاسبة. فقد اتجه السياسيون إلى تجريب كل شيء عبر التفاوض أو الضغط أو التسريب الإعلامي أو القضاء أو التشكيك بالقضاء أو التحالف أو نصف التحالف، ثم عبر التجوال على دول الجوار بحثا عن دعمها أو تزكيتها أو لإسقاط فيتو قد تحمله أي منها، ثم عبر الضغط على الأميركيين ودعوتهم لمزيد من التدخل أو التصعيد ضدهم وتحذيرهم من التدخل، وعبر الدعوة إلى تكثيف دور الأمم المتحدة أو الدعوة إلى أن لا تتجاوز المنظمة حدود تفويضها في العراق، عبر البيانات النارية والاتهامات المتبادلة والحديث عن عمليات اغتيال، ثم الإعلان عن أننا جميعا شركاء وعلى مسافة واحدة من بعضنا ولا نرضى إلا بحكومة يشترك فيها الجميع، ثم في اتهام أعلنه الجميع بأنه لا توجد معارضة ولا أحد يرضى أن يكون بالمعارضة. مجرد تصفح أي وسيلة إعلامية عراقية سيصيبك بالغثيان، فغالبا هنالك تصريح من القيادي الفلاني باسم حزب معين ثم إعلان قيادي آخر في نفس الحزب تصريحا مناقضا، ومن خبر في الصباح يتحدث عن تحالف وشيك بين (س) و(ص) ضد (ب) يتبعه خبر في المساء عن تحالف محتمل بين (ب) و(س) ضد (ص)!!

لقد مارست الطبقة السياسية أعلى درجات الاستهتار في صراع مكشوف على السلطة والمغانم بلا أي حس بالمسؤولية أو بحث في الإشكاليات الحقيقية التي يعاني منها المواطن، وأفضل الحلول المقترحة وأكثرها احتمالا هو ذلك الذي سيؤدي إلى حكومة يشترك فيها الجميع وينقلون نزاعاتهم إلى مؤسساتها، وبالتالي فإنها ستكون حكومة أحزاب متصارعة على السلطة أكثر من كونها حكومة إنجاز. إن عزلة الطبقة السياسية عن محيطها الاجتماعي ولا إباليتها تجاه معاناة الناس وإغراقها في منطق الصفقات وأجواء التآمر واستدعاء الفاعلين الخارجيين لتعقيد المشهد أكثر، قد أنتج وضعا جعل كثيرا منا قريبين من الكفر بالديمقراطية وبتطبيقاتها المشوهة، قبل أن تسهم هذه الديمقراطية نفسها بإدخال فاعلين جدد أكثر نظافة وشرعية وحقا بالتدخل من أي فاعل آخر يسعى الفرقاء السياسيون إلى توريطه.

مظاهرات الكهرباء وبغض النظر عن ركوب بعض القوى السياسية لموجتها ومحاولتهم تأجيجها في إطار السلوك الطفيلي المعتاد، إلا أنها كانت تمثل إعلانا مهما بأنه لا قيمة لأي حكومة دون رضا المحكومين، وأن المفاوضات المكيفة في المنطقة الخضراء لا تعني الكثير لأناس أهلكهم الحر في ظل انقطاع مزمن للكهرباء ودرجة حرارة تقارب نصف درجة الغليان. الناس هم الفاعل الغائب في مفاوضات تلك القوى، لكنهم في لحظة انفجار حقيقية يمكن أن يتحولوا إلى الفاعل الوحيد، وقد فرضوا على الطبقة السياسية استنفارا لم يكن على أجندتها واستقالة لوزير لم تتم عبر تسوياتها وصفقاتها الأمر الذي يجعلنا ندرك أن مواصلة الضغط الشعبي وتنقيته من محاولة أي من قوى الطبقة السياسية ركوبه سيكون أمرا مفيدا في إنتاج حركة اجتماعية غير سلبية تستفيد من الديمقراطية بقدر ما استفاد السياسيون من امتيازاتها.

الحدث الثاني كان تعبيرا عن يقظة محتملة للمجتمع المدني الحقيقي وليس الدكاكين التي تشكلت بعد 2003 للحصول على أموال من المنظمات الغربية، فقد نظم مجموعة من الصحافيين اعتصاما في ساحة الفردوس وأعلنوا فيه أنهم سيواصلونه حتى تتشكل الحكومة الجديدة، وعلى هامشه بدأوا يرفعون شعارات مهمة تستقطب آخرين ومن بينها تلك المطالبة برفع الحظر الليلي، والجديد في هذا الاعتصام أنه يدار من نخبة مثقفة وذات نزعة مدنية خلافا لأي تحرك شعبي سابق، وهو إذا ما تطور إيجابيا فسيضع أساسا لمجتمع مدني وصحافة أكثر استقلالية وقدرة على النقد، ولا بد له أن يظل بمنأى عن استغلال أي من القوى السياسية الراهنة ليواصل تأثيره.

الحدث الثالث هو سعي بعض النواب الجدد الذين همشتهم مفاوضات قادة كتلهم التي لا يعلمون عنها شيئا، والذين لا يسعون إلى مناصب سيادية أو رئاسية وبالتالي ليس لهم أجندة شخصية، إلى الحديث فيما بينهم بحوار عابر للحدود الكتلية عن إمكانية بلورة كتلة جديدة تسحب البساط من تحت أقدام الزعماء أو في الأقل تقيد إرادتهم من أجل إنتاج واقع جديد متجاوز لصفقات الزعامة وقد يسهم في إنتاج برلمان فاعل كشرط آخر من شروط الديمقراطية الحقيقية. هذا التحرك هو جنيني وقد يتم وأده، لكنه، كالتحركين الآخرين، ينبئ بأن الديمقراطية قد تنقلب على الطبقة السياسية التي لم تستوعب أن أهم شروطها هو الإبقاء على جسر يربطها بمعاناة المجتمع.