تداعيات ما بعد التوقيع

TT

حين وصل الأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، إلى غزة في زيارة وصفت بالتاريخية، أبلغت إسرائيل وزارة الاقتصاد الفلسطينية بأنها قررت السماح بمرور 4 سلع كانت ممنوعة إلى القطاع وهي بالضبط: المايونيز، الكاتشب، إبر الخياطة، رباط الحذاء.

سارعت وزارة الاقتصاد الفلسطينية إلى الإعلان عن التسهيلات الجديدة.. وسارع ناطقون بالمقابل إلى اعتبار أن هذه المكرمة الإسرائيلية غير كافية!!

ما يهمني في الأمر.. ليس ما هو كاف وغير كاف، فيما يسمح به أو لا يسمح به من السلع.. فبالحصار ودونه.. كانت إسرائيل قادرة على المنح والمنع.. ما دامت البضائع الفلسطينية المستوردة تمر من معابرها وتخضع لسلسلة من الإجراءات التي تشد وترخى حسب تقدير الإسرائيليين.. وليس حسب قواعد ملزمة..

ما يهمني هو ذلك الواقع السياسي الذي فرضته إسرائيل على المنطقة وعلى الفلسطينيين بالذات، وأهم وأخطر ما فيه دفع الجميع إلى الدخول في سباق حواجز يقطع الأنفاس، ويهدُّ القوى.. قبل الوصول إلى منطقة الاستحقاقات الأساسية، وهي حقوق الشعب الفلسطيني، بدءا من قيام الدولة على الأراضي المحتلة من العام 67، وانتهاء بما نسميه، ونصر عليه، بالحقوق الثابتة غير القابلة للتصرف، وهي ما تم تحديدها كبنود في قضايا الوضع الدائم: القدس واللاجئين والاستيطان والحدود والمياه.. مضافا عليها إنهاء الصراع العربي الإسرائيلي، أي إنهاء المطالبات العربية والفلسطينية من كل جوانبها.

هذه هي المنطقة التي لا يمكن بلوغ حل للنزاع دون الوصول إليها والتوغل في تفاصيلها والاتفاق على كل صغيرة وكبيرة منها.

أين نحن الآن من هذا؟

الجواب: لسنا مجرد بعيدين عنها، وإنما فرض علينا أن نلعب في مكان آخر.

لقد تمكنت إسرائيل من إغراقنا في بحر من التفاصيل، ولا نعفي أنفسنا من حقيقة أننا ذهبنا إلى هذا البحر بأقدامنا، حتى بدا اليوم كما لو أننا أبطال رواية عبثية.. تدور أحداثها في حلقة مفرغة، ما أن تقلع بفعل مبادرة ما من النقطة الأولى.. حتى تعود إليها من جديد بعد أن خسرنا الكثير، ونحمد الله أكثر على أننا ما نزال على قيد الحياة.

إننا الآن نواجه معضلة غزة نبسطها كي لا نصاب باليأس، ونقنع أنفسنا بأننا ما أن نكمل تواقيع الفصائل الفلسطينية جميعا على الورقة المصرية حتى نضع أقدامنا على طريق مضمون، يفضي إلى خلاصنا من المأزق المركب الذي ارتهنا إليه طيلة عقود، وأستخدم كلمة المركب، لأن البعد الإسرائيلي فيه يتضافر مع أبعاد أخرى تؤدي بالمحصلة إلى مواصلة التراجع والابتعاد عن الهدف حتى لو بدا بفعل مسكنات المايونيز وإبر الخياطة ورباط الحذاء قريبا وممكنا.

للمرة الثانية وعلى صفحات «الشرق الأوسط» تخيلت أن الفصائل الفلسطينية جميعا ركبت حافلة واحدة وتوجهت إلى مصر ووضعت تواقيعها وأختامها على الورقة إياها، وأعلنت أن الانقسام انتهى، وأن زمن الوحدة الوطنية قد جاء، فهل فكرنا مليا في الخطوات التالية وردود الأفعال عليها.

إننا سنذهب حتما وكما رشح من أنباء إلى استحقاق تشكيل حكومة جديدة، ولن يتنازل السيد إسماعيل هنية الفائز في الانتخابات وصاحب الكتلة الكبرى عن رئاستها، وعلى الدكتور سلام فياض صاحب الكتلة الصغرى «عضوين لا أكثر» أن يغادر المسرح، أو أن يقبل بوزارة المالية، حيث ارتبط اسم الرجل بالمال والدول المانحة وتوفير ما لم يكن باستطاعة فتح وحماس مجتمعين، أو كلا على حدة، توفيره لتأمين الحد الأدنى من حياة الناس إلى أن يفرجها الله، لن يقبل سلام فياض بعد رئاسة ناجحة للحكومة أن يتراجع خطوات إلى الوراء، ناهيك عن أن الذين وثقوا بصيغته وتوجهاته قد لا يعجبهم التخلص منه إكراما للوحدة الوطنية، وساعتئذ قد يتخذون مواقف سلبية كتلك التي اتخذت زمن حكومة ما بعد اتفاق مكة، ولا أقول زمن حكومة حماس الأولى والمغلقة.

وعلى افتراض أن رئاسة الحكومة لم تعد مشكلة، سواء بقي فياض أو غادر، وسواء كان إسماعيل هنية هو رئيسها أو تم اختيار شخص آخر ممن يسمون في ساحتنا بالمستقلين المحايدين، فهل يصح تجاهل الصيغة السياسية التي يتعين على الحكومة التوافقية اعتمادها والتقيد بها، وهنا هل نستطيع استبعاد العودة إلى نقطة البداية في مكة حين ألفنا صيغة توافقية ابتلعناها ونحن نؤدي العمرة جماعة.. وحين حملناها إلى العالم قال لنا: «انقعوها واشربوا ماءها».

وعلى افتراض أن معجزة من تلك التي كانت مستحيلة في الماضي قد وقعت إكراما لدعوات ما قبل رمضان المبارك، حيث بدأنا الاستعداد له بعد المونديال بالمسلسلات العربية والتركية والأمنيات، وتوصلنا وإخواننا في حماس والجهاد الإسلامي، وربما حزب التحرير وفصائل دمشق وحتى فتح الإسلام، إلى صيغة سياسية ترضي العالم، وتطور دعمه لنا، وتضع في يد الرئيس أوباما مسوغات مبادرة يقبل بها كل هؤلاء ومعهم إسرائيل يوسي بيلين وليبرمان وبيريس ونتنياهو إلى آخره.

فهل من حقنا أن لا نتحسب لتأثير قوى أخرى ذات أجندات كان التحالف مع حماس وما تمثل سياسيا وعقائديا أحد أركانها، ومبرر الإقدام والإنفاق على مستلزماتها؟

عند هذه النقطة نقف، فالأمر يتعلق بسورية وإيران، فإذا كانت سورية البارعة تاريخيا في المناورة وتوظيف الآخرين في تجارتها ستقول: إنني أدعم تاريخيا أي خطوة وحدوية يتفق الإخوة الفلسطينيون عليها، فهل ستقول إيران الكلام ذاته، وإن قالت فهل ستواصل الإنفاق على الاتفاق إذا انتقل إلى مكان آخر؟

هذه أسئلة ينبغي أن تطرح، وأن تتم الإجابة عنها، كي نرى مواطئ أقدامنا في المرحلة السياسية القادمة، أعرف أن حرج تواصل الانقسام يولد حاجة دائمة لتفاؤل إن لم يكن حقيقيا فلا بأس أن يكون مخترعا، وأعرف أن الدخول التركي من خلال دم شهداء مرمرة قد أحرج الفلسطينيين والعرب وإسرائيل وأميركا وكل من له أسهم في المشروع الشرق أوسطي المتعثر. وليس ذلك فقط، وإنما أيقظ ضمائر نائمة أو متناومة، وأنعش حسابات ظاهرة أو كامنة، وتطلعات تنتسب إلى البيزنس السياسي أكثر مما هي لأمر آخر، لكن هل هكذا يستثمر كل الذي حدث؟ وهل بهذه الطريقة نلزم إسرائيل بالعقلانية والتوازن ومنح الفلسطينيين ما ارتضوه لأنفسهم من حد أدنى من الحقوق.

أخيرا.. أعود إلى مفارقة زيارة الأمين العام لجامعة الدول العربية إلى غزة وتوقيت الإعلان عن السلع التي تم السماح بها، لقد ذهب الأمين العام بكل إخلاص للهدف، إلا أنه يدرك صعوبة الوسيلة، أما إسرائيل فأحبت أن تقول: ليس لكم عندي إلا هذا النوع من المحفزات، فإن بدأنا برباط الحذاء وإبر الخياطة فتأملوا أن نطور الأمر لما هو أكثر وأفضل!!

إن البساطة في طرح الأمور، وتوضيحها مأثرة إبداعية تصلح في السياسة والصحافة والأدب والفن، إلا أن هنالك فرقا شاسعا بينها وبين التبسيط، الذي إن وقع فيه صناع السياسة فإنهم سيضطرون لاعتبار إبرة الخياطة التي سمح بدخولها إلى غزة خطوة أولى على الطريق، ومن لديه وقت فليقس المسافة ويعد الخطوات!!