ما الذي يجمعنا مع ستانلي ماكريستال؟

TT

رغم انشغال الصحافة العالمية بأخبار المونديال، فقد احتلت أنباء اختلافات قائد القوات الأميركية في أفغانستان، ستانلي ماكريستال، مع الإدارة الأميركية، ومن ثم إقالته، مساحة لا بأس بها في الإعلام، وإن تك معظم تلك الوسائل قد تجنبت طرح الأسئلة الحقيقية، واكتفت بإثارة الفضول حول الخلاف بين بايدن وماكريستال، وحول تعليقات رئيس الأركان الأميركي مايكل مولن عن «خيبته العميقة»، والتركيز على ما سمي بانتقادات ماكريستال للرئيس أوباما، مع أن التركيز الأساسي من وجهة نظر أميركية بحتة كان يجب أن يكون على ما أشار إليه رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ جون كيري: «إن أولى الأولويات هي مهمتنا في أفغانستان، وقدرتنا على المضي قدما بمهارة». وتأتي كل هذه الإشكالية إثر مقابلة أجرتها مجلة «رولينغ ستون» الأميركية مع ماكريستال، حمل غلافها عنوان «الجنرال الهارب» (The Runaway General)، والعنوان الأدق لتلك المقابلة كان يجب أن يكون «The Realistic General» (الجنرال الواقعي)، خاصة أن شروحات ماكريستال لواقع الأمر في أفغانستان قد تزامنت مع الرحيل المبكر من كابل للموفد البريطاني الخاص إلى أفغانستان وباكستان شيرارد كوبركولس، مما يؤكد مسألة التصدع الذي يصيب قوات «التحالف»، وعدم نجاح الاستراتيجية التي يريدها أوباما في أفغانستان. كما تزامنت هذه الإشكالية مع منظر الجنرال بترايوس يفقد وعيه للحظة، وهو يدلي بشهادته أمام مجلس الشيوخ، الذي أعاد إلى الأذهان سؤاله الشهير حول العراق «كيف سوف تنتهي هذه الحرب؟». ربما هذا هو السؤال الأهم الذي يجب أن يمتلك الجميع الشجاعة لطرحه حول أفغانستان والعراق والشرق الأوسط، بدلا من الغرق في تحليل الانتقادات هنا وهناك، واعتبار ما قيل عن هذا المسؤول أو ذاك كارثة، بدلا من التركيز على الأسباب الموجبة المنبثقة من الواقع لمثل هذه التصريحات. وإذا توقفنا للحظة حول سمعة الجنرال ديفيد بترايوس وستانلي ماكريستال في مناطق الصراع بالمقارنة مع سمعتهما اليوم في الولايات المتحدة، ربما نضع أصبعنا على موضع الجرح الأساسي في الموضوع. إذ إن سمعة هذين القائدين في مناطق الصراع قد تجاوزت إنجازاتهما العسكرية والنياشين والأوسمة التي قلداها، ليكتسبا صورة الجنرال الذي يأبى لأفراد جيشه أن يذبحوا يوميا كالقرابين في معركة يعلم علم اليقين أنها لن تقود إلا إلى مزيد من الخسارة له وللآخرين، ومن الصعب جدا أن تحقق الأهداف المبتغاة منها.

ولذلك فإنه من واجب القائد الميداني المؤهل والصادق مع نفسه، ومع تاريخه، أن يشير إلى مكامن الأزمة، مهما اعتلت مراتبها في البيت الأبيض أو البنتاغون، ولا يمكن التعامل معه بالطريقة ذاتها التي تم التعامل بها مع هيلين توماس، ألا وهو إسكاتها ومنعها من قول الحقيقة، وإنهاء خدمتها في البيت الأبيض. إن هذا الأسلوب الذي ينحو منحى كم الأفواه، بدلا من التقاط المؤشرات والتركيز على تقديم الحلول، قد يخدم فئة صغيرة متنفذة، ولكنه لا يخدم الولايات المتحدة، ولا يخدم جيشها وشعبها.

إن ما يميز الجنرال ماكريستال عن هؤلاء الذين يجلسون في مكاتبهم المريحة في البيت الأبيض أو البنتاغون أو الكونغرس في واشنطن، هو أنه قائد ميداني، وأنه عايش الواقع وفهم مداخلاته وتعقيداته، ولذلك فهو أقدر على حسبان النتائج التي يمكن التوصل إليها، أما هؤلاء فلا خبرة ولا قدرة لهم على التقاط، أو ربما تحليل، ما يقوله، ولذلك فهم يركزون على انتقاد هذا وذاك، أو على ما قاله عن الرئيس ونائب الرئيس، علما بأن المشكلة تكمن في مكان آخر، وليس في الانتقادات أو توصيف الأسلوب، بل في ما قيل عن جوهر المسألة. أوليس غريبا أن يصبح أهم جنرالين في الجيش الأميركي أكثر واقعية، وفي التحليل العميق أكثر رغبة في إنهاء الحروب في أفغانستان والعراق من السياسيين الذين من المفترض أن يكونوا، بطبيعتهم، ضد الحروب، وأميل وأقدر على وضع حد لهذه الحروب؟ وإذا كان هؤلاء القادة العسكريون من المشهود لهم بتاريخهم الشجاع والمشرف والنزيه، فلماذا يتم إلحاق الأذى بمصداقيتهم الآن، وعدم اعتماد رؤاهم كرؤى تهدف إلى إنقاذ الولايات المتحدة من ورطة تسبب بها المحافظون الجدد، وألحقت عظيم الأذى بسمعة الولايات المتحدة وحياة أبنائها ومصداقيتها، ناهيك عن الأزمة الاقتصادية التي كانت إحدى نتائج الإنفاق غير المبرر. كل هذا من وجهة نظر أميركية صرفة. أما إذا أردنا أن نتحدث عن الثمن الإنساني الذي دفعه شعب أفغانستان وباكستان والعراق من دماء وألم وتشرد ولجوء؛ فإن هذه الحروب قد ترقى إلى جرائم تاريخية سوف يحاسب عليها التاريخ، وسوف تستمر نتائجها في إلحاق الأذى بالولايات المتحدة لسنوات، وربما لعقود قادمة.

نحن في البلدان المتضررة في الشرق الأوسط وآسيا نفهم وجهات نظر الجنرال ماكريستال، كما نفهم رحيل الموفد البريطاني شيرارد كوبركولس، لأننا نعلم تعقيدات هذا الواقع، وضرورة وضع معالجة مختلفة له عما يفكر به هؤلاء في واشنطن، الذين يفكرون في سمعتهم ومواقعهم ومراتبهم ورضا رؤسائهم عنهم، ولكنهم لا يفكرون في التضحية بشيء من أجل قول الحقيقة أو قرع جرس الإنذار. هذه هي حقيقة مشكلتنا مع من يعالجون مسألة الصراع العربي الإسرائيلي، الذين يبدون لنا وكأنهم يعيشون على كوكب مختلف تماما لا يمت إلى كوكب الأرض بصلة. فكما قرأت أخيرا أن نائب الرئيس الأميركي، جو بايدن، يجري اتصالات هاتفية أسبوعية مع وزير حرب الكيان إيهود باراك، ويحاول من خلال علاقته بباراك أن يتجاوز الآثار السلبية لعلاقة الرئيس الأميركي باراك أوباما برئيس وزراء الكيان الصهيوني نتنياهو، وكأن المشكلة هنا هي مسألة علاقات عامة، ومن يتحدث مع من، ومن لا يطيق الحديث إلى من. أوليس من المستغرب أن يتدنى أداء من يمتلكون القدرة على التأثير على حياة آلاف، بل ملايين البشر، إلى هذا المستوى؟ من هو المسؤول اليوم عن حي السلوان في القدس الذي لم تطأه قدم يهودي واحد قبل نهاية التسعينات، ومن سوف يحاسب على هدم بيوت عربية جميلة تشكل إرثا حضاريا وتاريخيا وتحفا معمارية يجب أن تكون ملكا للتراث العالمي الإنساني، وتشريد أهلها وسكانها أو إبعادهم؟ وهل يتطرق نائب الرئيس الأميركي إلى مثل هذه المسائل في حديثه مع باراك؟ ومن هو المسؤول عن حرمان ملايين الفلسطينيين من رؤية ذويهم ومن الحصول على لعب أطفال، وعلى حقهم في التعليم والحرية والحياة الكريمة؟ أوليس هذا هو هدف وجود الحكومات والحكام، أوليس «العدل أساس الملك»، أم أن الألاعيب السياسية انزلقت، وانزلقت معها أقدر الحكومات في العالم إلى مرحلة كم الأفواه وتغييب الحقائق، وإنزال العقاب بمن تسول له نفسه أن يمتلك الجرأة للإشارة إلى مكامن الخطر، سواء أكان هيلين توماس أم ناعوم تشومسكي أو الجنرال ستانلي ماكريستال.

إن من يستحق الإقالة هو هؤلاء الذين يدقون طبول الحرب ويضحون بأبناء الآخرين، سواء أكان هؤلاء الأبناء من الأميركان أو الأفغان أو البريطانيين أو العراقيين، وليس الجنرال ماكريستال؛ لأن خسائر التحالف لن تتوقف بإقالة الجنرال، بل قد تتوقف بعد الاستماع الجاد إلى وجهة نظره والأخذ بمقترحاته، وإقالة هؤلاء في واشنطن، الذين يطيلون أمد الصراعات، ويضحون بأبناء الناس لأنهم ليسوا أبناءهم، ثم يمضون غير مكترثين بما أوصلوا العالم إليه من جحيم، تماما كما مضت كونداليزا رايس وجورج بوش ودونالد رامسفيلد غير آبهين بآلام آلاف الأسر الأميركية والعراقية نتيجة حرب مدمرة أشعلوها، ولا يعلم أحد اليوم كيف يوقف سعيرها، لأن كل من تسول له نفسه قول الحقيقة تتم إقالته، ويبقى هؤلاء الذين لا يأبهون بحجم مسؤوليتهم التاريخية، ولا يفقدون نومهم لأن ابن أسرة في الجنوب الأميركي أو في العراق أو أفغانستان قد فقد شبابه وحياته، وأفقد أسرته الهناء والفرح من بعده دون جدوى ودون سبب مقنع. إذا كان من يجرؤ على قول الحقيقة يسمى الجنرال الهارب، فإلى أين سيقود من تسببوا بإقالته عالم اليوم في مناطقنا هذه؟ هذا هو السؤال الأهم والأخطر، الذي يجب التوقف عنده مليا.