الفتنة في ظل الممانعة.. وغياب المناعة

TT

«وكم هو عدد الفرق المقاتلة

في جيش البابا؟».

(ستالين)

بلدان فيها الكثير من الطائفية والقليل من الإيمان، كبعض ديارنا العربية، لا يحتاج إيقاظ الفتنة النائمة فيها إلى أكثر من بيان بلا توقيع.. أو عبوة متفجرة.

فالجو العام مشحون، والثقة معدومة، وأصحاب القرار لا يرون الصواب إلا في ما يطمحون إليه ويسعون لفرضه فرضا على الآخرين.

ولنتطرق، على سبيل المثال لا الحصر، لما يحدث في لبنان، من دون تمحيص المعضلة الفلسطينية المتفاقمة والأزمة العراقية المتطاولة. فهناك انطباع واهم بأن لبنان غدا في وضع طيب بفضل المؤشرات الجيدة لموسم الاصطياف، بينما تواصل «حكومة» حماس خوض رهانات دولية أكبر منها، ولا يزال المواطن العراقي موعودا بحكومة ذات تمثيل متوازن وواقعي بعد مضي أشهر على انتخابات عامة ترفض جهات نافذة داخليا وخارجيا الاعتراف بمضمونها.

في وقت سابق من هذا الشهر وُزّع في مدينة صيدا، عاصمة جنوب لبنان، بيان صيغ بعبارات أصولية «قاعدية»، لكنها ركيكة «قواعديا»، ينذر فيها بضرورة رحيل سكان القرى المسيحية الواقعة إلى الشرق من المدينة ذات الغالبية المسلمة السنية. وللعلم فإن صيدا هي مدينة رئيس الحكومة سعد الحريري وسلفه فؤاد السنيورة، ويقع في ضواحيها مخيم عين الحلوة.. أحد أكبر مخيمات اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، ويشكل الجنوب الشيعي - حيث السلطة الفعلية لحزب الله - عمقها الطبيعي والحيوي. وبالتالي، تشكل محاولة من هذا النوع نموذجا مثاليا لتوجه رسائل الفتنة مع «تجهيل» الفاعل.

الرسالة قد تكون جدية أو لا تكون، لكن ما يجعل منها حدثا خطرا هو انعدام المناعة الذاتية في لبنان، بالمقارنة مع دول حقيقية تحكمها المؤسسات ويظللها التفاهم الوطني العابر للطوائف. فقبل هذه الرسالة تحول موضوع الكسارات (المحاجر) في عين دارة بجبل لبنان إلى سجال طائفي مسيحي درزي، وبعدها تحول نزاع مسلح عشائري ضمن العشيرة الشيعية الواحدة.. إلى تذكير مسيحي للدولة بازدواجية المعايير إزاء الهوية الطائفية للسلاح.

الحقيقة هي أن في لبنان.. «الهوية الوطنية» ذاتها - رغم كل الكلام العبثي المنمّق - موضع خلاف. سيادة البلد موضع خلاف. مصيره موضع خلاف. تحالفاته موضع خلاف. ولذا، يصبح عند أي عابث بالأمن، مثله مثل أي مضارب في البورصة، فرصة ما لتحقيق الربح.

هذا الواقع الذي يحاول اللبنانيون تناسيه بالتلهي بأمور أخرى، ككرة القدم، واكتشاف النفط، يولد ظواهر أخرى «تراجيكوميدية»، كالدعوى القضائية التي بشر أحد نواب حزب الله بأن الحزب يناقش إمكانية رفعها ضد الإدارة الأميركية بتهمة تمويل عملية تشويه صورة حزب الله لدى الشباب اللبناني، متسترة وراء دعم بلديات صرف عليها فتات 500 مليون دولار، وخافية أسماء المستفيدين من شخصيات وأحزاب ووسائل إعلامية. ومنها أيضا بيان «عنتري» من نائب مسيحي جنوبي يؤكد على رفضه و«تياره» ترحيل المسيحيين من شرق صيدا.. معتبرا أن الخطر لا يزيله الكلام، بل العمل.

من تابع السياسة الأميركية الغريبة تجاه لبنان منذ عام 2004، لا بد أن يوافق حزب الله على مساءلة الإدارة الأميركية، بل الإدارتين الحالية والسابقة، وبالأخص، جيفري فيلتمان السفير السابق في بيروت والمسؤول الحالي الرفيع في الخارجية الأميركية. لكن كلام نائب «الحزب» يطرح تساؤلين: الأول، هل يحتاج اللبناني من غير أبناء الطائفة الشيعية الكريمة إلى قبض رشاوى أميركية لكي ينظر بعين الشك والريبة إلى هيمنة حزب الله على لبنان.. دولة وأرضا وقرارا؟ والثاني، مع تأييد حزب الله كليا في مسألة فضح المستفيدين من المال الأميركي المموه بدعم البلديات، هل ينطلق اتهام «الحزب» من خبرة خاصة؟ وهل في مشاريع «الحزب» ومؤسساته في مختلف أنحاء لبنان غايات غير تنموية.. على الطريقة الأميركية؟

أما بالنسبة إلى النائب المسيحي، بيّض الله وجهه، فيبدو أنه نسي أن مواطنا مسيحيا من بلدة قريبة من صيدا خطف قبل أكثر من سنة قرب مركز عمله ولم يعد إلى بيته حتى الآن، ونسي أن «تياره» المسيحي يخوض معاركه وتحالفاته التكتيكية في الساحة الإسلامية من منطلق طائفي تحت ستار منع التوطين. أما في مجال العمل على ترحيل المسيحيين وتهجيرهم.. فلا جهة تجرؤ أن تزايد في هذا المضمار على «تيار» النائب.. عدو الترحيل والتهجير.