عندما يتمرد الجنرالات على الساسة

TT

لم يكن جلساء الجنرال حسني الزعيم، في مقاهي دمشق، يصدقونه، وهو يقسم بأنه سيقود، يوما ما، انقلابا عسكريا. ورأت حكمة الرئيس الديمقراطي الطيب شكري القوتلي أن يسترضي ضابطه الأهوج والشجاع. أوفده مديرا للشرطة في محافظة نائية (دير الزور). ثم استعاده ليسلمه قيادة الجيش! صفق السوريون للجنرال الذي دشن سلسلة الانقلابات السورية الكارثية. لم يكونوا يدرون أن الانقلاب العسكري مؤامرة على الحرية. على السلطة المدنية. والسلطة الشرعية.

حكم العسكر شقاء عليهم وعلى شعوبهم. ولعلي أكشف سرا تاريخيا عندما أقول إن الجنرالات الانقلابيين الذين أعدموا قائدهم المشير حسني الزعيم (1949)، وصموه بكل الموبقات، باستثناء واحدة، لم يجرؤوا على مصارحة شعبهم بها. فقد أخل الزعيم بشرفه العسكري، عندما سلم السلطة اللبنانية أنطون سعادة زعيم الحزب السوري القومي اللاجئ إلى سورية. وأثار إعدام سعادة في لبنان ثائرة الضباط الانقلابيين. وكان بينهم أنصار متحمسون للحزب أو أعضاء فيه. وأذكر منهم العقيد أديب الشيشكلي صاحب الانقلاب الثالث الذي حكم سورية نحو خمس سنوات (1950/1954).

أكتب هذا الحديث بمناسبة إقالة الرئيس الأميركي باراك أوباما للجنرال ستانلي ماكريستال قائد القوات الأميركية والأطلسية في أفغانستان، لمجرد أنه سخر، هو وضباطه، علنا من الرئيس أوباما ورجال إدارته.

في الديمقراطيات الغربية، يصعب إلى حد الاستحالة الانقلاب العسكري. المؤسسات المدنية قوية وراسخة (السلطات الثلاث. الأحزاب. النقابات. الدساتير. القوانين. الصحافة). بل الشعوب تثور فورا، إذا تجرأ جنرال أو رجل دين على المس بالحريات السياسية والشخصية.

نعم، المؤسسة العسكرية في الديمقراطيات الغربية ذات اتجاهات، غالبا، يمينية. محافظة. أحيانا فاشية. عنصرية. الجنرالات يستطيعون فقط الهمس في آذان الساسة. وتقديم المشورة العسكرية لهم. لكن لا يجرؤون على التمرد عليهم.

عندما قرر الرئيس الجنرال شارل ديغول النزول عند رغبة الجزائر في الاستقلال (1962)، ثار عليه ضباط الاستعمار. خططوا لقلبه. حاولوا اغتياله. لكن الجنرال صمد. وصمدت معه الديمقراطية الفرنسية. وسرح ديغول جنرالاته المتمردين. لم تعد «شنبات» العسكر تخيف. اختار الرئيس ساركوزي سيدة وزيرة للداخلية. ثم وزيرة للدفاع. في إسبانيا، استعرضت وزيرة الدفاع جنرالاتها وجنودها، وهي تنوء بحملها في بطنها.

لكن في جزائر الاستقلال، قلب الجنرال هواري بومدين رئيسه المدني أحمد بن بله (1965). لم تكن المؤسسات المدنية الشرعية قد رسخت وجودها. كان بومدين رجل دولة. أكثر هدوءا واستقرارا. زوج بومدين أسيره وهو رهن الاحتجاز. تقلب ابن بله في الأسر 15 سنة. دخل ماركسيا. خرج متأسلما!

لم يكن ماكريستال أول جنرال أميركي يتمرد على رئيسه المدني. عندما طالب الجنرال دوغلاس مكارثر بضرب الصين بالقنبلة النووية خلال الحرب الكورية، أقاله رئيسه هاري ترومان. لم يعبأ المدني بشعبية العسكري. يبدو أن ترومان الذي جرب قنبلته في يابان هيروهيتو، لم يكن راغبا في تجربتها بصين ماو.

تحمل جمال عبد الناصر وطأة هزيمتين عسكريتين مروعتين، ليتخلص من جنراله عبد الحكيم عامر. عرفت عامر، عن كثب، خلال الوحدة المصرية/السورية. كان جنرالا طيبا. أدار الجيش بعقلية عمدة. سمح لضباطه بالإيقاع بينه وبين ناصر. كان عامر كارثة. تسبب بهزيمة السويس (1956). تسبب بسقوط الوحدة (1961). وكان من أسباب النكسة (1967).

أثبت الجيش المصري وعيه. انضباطه. مهنيته العسكرية، بولائه المطلق والدائم للمؤسسة الشرعية. وحتى قناصة ورماة الجيش الذين صرعوا الرئيس أنور السادات (1981) كانوا عاجزين عن تحويل الاغتيال الفردي، إلى انقلاب يستولي على السلطة. السبب كونهم ينتمون إلى تنظيم إرهابي لا يملك الشعبية الرافضة له حاكما شرعيا.

في عصر الانقلابات، كان الملك الحسن الثاني أذكى من جنراله العصبي المتمرد محمد أوفقير. أوهم رجال الملك الجنرال أن لا حاجة للاستمرار في قصف الطائرة الملكية. فقد أصيب الملك وقضي إلى رحمة الله. انقضت حياة الجنرال عندما لامست الطائرة الملكية بسلام أرض المغرب. كانت مؤامرة أوفقير محاولة جنونية لضرب الاستقرار والانسجام الاجتماعي الذي ضمنته الأسرة العلوية المالكة على مدى قرون.

لم أعرف أوفقير. عرفت الجنرال الخجول الذي حل محله. عشت أياما مع الجنرال أحمد دليمي. رافقته في طائرته الخاصة وحيدا مع رئيس أركانه. عرفت نفوذه. دخلت قصوره ومكاتبه. كان دولة داخل الدولة. لكن كم كان بسيطا ذلك الجنرال ذو العضلات القوية والأفكار البسيطة. لم يكن يجيد حتى الكلام مع صحافي.

يبدو أن حظي مع الجنرالات كان كبيرا. التقيت في دمشق الجنرال الأردني الشاب علي أبو نوار رئيس الأركان الذي حاول قلب الملك حسين في الخمسينات. كان الجنرال الهارب ثائرا. وناقما. ثم التقيته في باريس بعد عشرات السنين. لم أعرفه. كان السرطان قد أنهكه. لكنه كان راضيا. إنه فن الحكم وسياسة الناس اللذان أجادهما ملك حكم طويلا. عاقب ولم يشنق. صفح. استرد المتمردين. كسبهم. حتى الجنرال أبو نوار أصبح يتكلم الفرنسية بطلاقة، وهو سفير للأردن في فرنسا.

تمرد الجنرالات مرارا على الساسة في تركيا. أعدموا رئيس الوزراء عدنان مندريس (1960). سجنوا الرئيس العجوز جلال بايار. هل يتمردون على رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان؟ اقتراب تركيا من أوروبا خيب أملها. لكن علم عسكر الكمالية كيف يحترمون السلطة المدنية المنتخبة. شعبية أردوغان. شرعيته. وحتى أسلمته لم تطغ على احترامه لحريات المجتمع المدني.

لماذا غدت الانقلابات العربية نادرة؟ لأن العالم تغير. شاعت ثقافة حقوق الإنسان. لم يعد مقبولا اعتداء العسكر على شرعية النظام وحرية المجتمع. صار الجنرالات أكثر زهدا. وأقل طموحا. باتوا يتهيبون مشاق السلطة والحكم في عالم خطر.

النظام العربي اليوم أكثر حذرا. فقد أحكم حماية نفسه. اعتمد أجهزة الأمن الكاتمة للصوت، للوقاية من هدير الدبابات. تصعيد العلاقة العشائرية والطائفية وفر للنظام ثقة أكبر بنفسه، وإن كان ذلك على حساب فلسفة الدولة الحديثة في احترام المجتمع المدني.

تشكيل الدولة في الخليج العربي جاء متأخرا عن مثيله في المشرق والمغرب. لكن الشرعية التاريخية للأسر الحاكمة وفرت الوقاية للنظام الخليجي من الكوارث الانقلابية. ساعدت على ذلك أيضا حكمة أمراء ومشايخ النظام الخليجي. فقد عرفوا كيف يستغلون موارد النفط الهائلة في تطوير مجتمعاتهم وإعمار مدنهم.

لا شك أن هناك أخطاء. لكن المواطن الخليجي اليوم ينعم بالأمن. بالاستقرار. بالازدهار الاقتصادي. بحرية المشروع والعمل. بالخدمات شبه المجانية: صحة. تعليم. كهرباء. مياه. وما المطلوب من العربي الخليجي سوى أن يكون في فكره وعمله. في حله وترحاله. وتعامله مع العالم الخارجي، على مستوى انتقال مركز الثقل العربي السياسي والمادي إلى الخليج.