الكرة والهوية

TT

بعد تشرد الكثير منا من ديارنا، واستقرارنا في شتى البلدان الأجنبية، واكتسابنا جنسياتها، والزواج بنسائها وتعلم لغاتها وأساليب حياتها، أصبحت مشكلة الهوية تشغل بال الكثيرين. هل أنا عراقي لأنني ولدت ونشأت في بغداد، أم بريطاني لأنني أحمل هذه الجنسية ودرست في كلياتها وتشربت بثقافتها وكونت عائلة منها؟ كيف تعرف هويتك أيها المغترب؟

أعرف أحيانا أن هذا البيت بيت عراقي عندما أدخله وأشم رائحة التمن والباميا. هل يمكن اعتبار الباميا دليلا على الهوية؟ يقول بعض الخبراء إن الحساب خير دليل على الهوية. أنت إنجليزي عندما تحسب وتجمع وتكتب الأرقام بالإنجليزية. وأنت عربي عندما تفعل ذلك باللغة العربية. فكرت بذلك فاكتشفت اختلاط تفكيري، فكثيرا ما أكتب الأرقام وأجري حساباتي باللغتين فيرتبك عليّ الحساب وأقع في الغلط. هل هذه هي هويتي: غلطان أفندي؟

كلا. فكرت بطريقة أخرى لمعرفة الهوية. سيغموند فرويد وجماعة التحليل النفسي يعتقدون أن إنسان اليوم هو طفل الأمس. فالأعوام السبعة أو الثمانية من حياته هي التي تشكل نفسيته وعقليته وهويته. ولكن هذا لا يعطينا المقياس الكامل. فكثيرا ما يقضي الطفل حياته في بلدان ومعاهد ومؤسسات مختلفة ويتربى في أحضان مربيات مختلفات. كتبت قبل سنوات أن الموسيقى هي التي تقرر هويتنا. ادخل إلى الحمام. في الحمام اعتاد الناس أن يطنطنوا بشيء. اخلع ملابسك، واغطس في الماء. ما الذي ستتمتم أو تصفر أو تغني من لحن؟ هذا هو هويتك. إذا غنيت أغنية لعبد الوهاب فأنت عربي. إذا غنيت «يا نبعة الريحان» فأنت بغدادي وإذا غنيت «عمي يا بياع الورد» فأنت معيدي. فكرت بذلك ولكنني وجدت أنني لا أطنطن بشيء في الحمام. فبقيت هويتي لغزا.

دلتني أخيرا مباريات المونديال على الاختبار الدقيق للهوية. وهذا في الواقع ما انتبه إليه الوزير البريطاني السابق، نورمن تبت. لاحظ في مباريات الكريكت أن البريطانيين من أصل جامايكي كانوا يشجعون فريق جامايكا وليس الفريق البريطاني. قال: هؤلاء القوم لا ينتمون لنا. ولاؤهم لدولة أجنبية وما كان علينا أن نمنحهم الجنسية البريطانية.

واجهت هذا الاختبار أثناء المونديال، ولا سيما عند مباراة إنجلترا والجزائر. لمن سأتحمس وأشجع؟ الإنجليز الذين أنتمي إليهم بالجنسية والموطن، أم الجزائريين الذي أنتمي إليهم بالعروبة والإسلام؟ شعرت بهذا الانشقاق طوال مشاهدتي للمباراة. ولكن عواطفي جنحت في الأخير إلى الجانب الجزائري. بيد أنني في الواقع لم أتحمس للجزائر فقط بل ولكل الفرق الأفريقية. أفكان ذلك تمييزا عنصريا في جانب الشعوب السمراء التي انحدرت منها ضد الشعوب الأوروبية البيضاء؟ كلا، ففي مباراة نيجيريا واليونان، تحمست للفريق اليوناني. فعلت ذلك بعد أن سمعت بأنه الفريق الضعيف في المونديال، أضعف الفرق. الحقيقة أنني دائما أشجع ما يسميه الإنجليز بالكلب المغلوب underdog. باستعمال مقياس الكرة عن الهوية والانتماء والولاء، وجدت ولائي. أنني أنتمي لهذه القبيلة الواسعة «المستضعفون في الأرض».