الحياة وفق «ما يطلبه المستمعون»!

TT

هناك أسطورة بطلها اسمه (بروكرستس) كان يعاني من جنون عظمة جعله يتخيل أنه النموذج الأمثل للإنسانية المتكاملة، فكان يجبر الآخرين على النوم في سريره، فإن كان الضحية أطول من السرير قص الزائد من ساقيه، وإن كان أقصر من السرير شد الضحية حتى لو اضطر إلى خلع مفاصله، وإشكالية بعض الناس أنهم ينهجون نهج «بروكرستس»، يريدون من الآخرين أن يكونوا نسخا كربونية، تتماثل معهم في الأفكار والرؤى والقناعات.

في المجتمعات الإنسانية المتطورة التي تؤمن بحرية الأفكار، يمكنك أن تطلي رأسك باللون الذي تريد، شريطة أن لا تنبت لك قرون تثقب بها حرية الآخرين، فهم ينسجون من الاختلاف تكاملا، وفي المجتمعات الأقل تقدما يوقدون من التباين صراعات، وفتنا، وحروبا. في المجتمعات الإنسانية المتطورة يعيش الفرد كما يريد، وفي المجتمعات الأقل تقدما يعيش الإنسان وفق ما يريده الآخرون، أو بعبارة أخرى يتحول إلى «ما يطلبه المستمعون».

العالم المتقدم يدين بالفضل في تقدمه، وقبوله بالاختلاف إلى الكبار التاريخيين الذين تمردوا على سياسة القطيع، ورفضوا النوم في سرير بروكرستس، وقالوا: «لا»، من أمثال «غلوردانو برونو» الذي أحرق حيا في أحد ميادين روما لأنه رفض التخلي عن قناعته بدوران الأرض حول الشمس، وهي الفكرة التي كانت تعتبرها الكنيسة كفرا، ومثله العالم «غاليليو غاليلي»، الذي حينما أجبر على أن يكتب تعهدا يعلن فيه تخليه عن فكرة دوران الأرض حول الشمس، أمسك بالورقة والقلم، وكتب: «نعم أنا غاليليو غاليلي أتخلى عن فكرة دوران الأرض حول الشمس، ومع ذلك فإنها تدور».

في المجتمعات الأقل تقدما لم تنضج قناعات الناس بعد ليدركوا بأن غلبة الحجة أهم من غلبة القوة، وأن القوة تزول أما الحجة فباقية، ولذا تجدهم يلعقون أفكارهم التي يؤمنون بها خشية سطوة القوة، وما أكثر الأفكار العظيمة الموءودة في أذهان أصحابها خوفا مما يثيره البوح من نقع الاحتجاج، فينشأ على أثر تلك الخشية الكثير من تعثرات الخطاب في مجالات العلم والفقه والثقافة وغيرها.

حرية الفرد الفكرية التي تخشى المجتمعات الأقل تقدما نسائمها، هي الدواء لكل أوجاع تلك المجتمعات، فمن تصادم الأفكار ينبثق الضوء، ومن تقابل الرأي والرأي الآخر تولد الحقيقة، ويزداد اليقين، ولنتأمل قول فيلسوف الهند الكبير طاغور: «إذا أنت أغلقت بابك دون الزيف والضلال امتنعت عنك الحقيقة».

[email protected]