نجح «الائتلاف الوطني» في تحريك الشارع.. فماذا بعد؟

TT

في العراق، لا شيء عفويا. وهذا ينطبق على كل الأحداث التي وقعت. فالناس هناك منشغلون في السعي من أجل لقمة عيش هانئة حرمهم منها المستأثرون بالحكم، أو وقعوا تحت تخدير شحن مبني على اجترار ماض يفترض طي صفحاته. لذلك، فما سمي بـ«انتفاضة الكهرباء» لم يكن حدثا عفويا. فخروج بهذا النطاق الواسع والتوقيت لم يكن متوقعا، لولا إيحاءات وتوجيه وتنظيم لمجابهة ترد خطير في الخدمات واستعصاء شاذ في عملية إعادة بناء الدولة.

ومن يراجع أحاديث زعيم «الائتلاف الوطني» السيد عمار الحكيم الأسبوعية، يجد تركيزا قويا وعادلا على النقص الفظيع في التيار الكهربائي. على الرغم مما قيل عن صرف سبعة عشر بليون دولار منذ سقوط النظام السابق، الذي تمكنت فرقه الهندسية من إعادة مستويات عالية من الطاقة بعد بضعة أسابيع فقط من وقف حرب 1991، ولم يكن عنده حفنة دولارات لصرفها، إضافة إلى عقوبات دولية لا مثيل لها.

ربما يظهر من يتهمني بالسعي لتعميق الانشقاق الشيعي - الشيعي. وللرد على هذا الرأي أطرح سؤالا محددا، هو: هل يمكن بناء وطن في ظل مشروع طائفي؟ وبما أنه لا وجود لجواب غير النفي، فإن الخلافات السياسية بين أصحاب الفكر المذهبي الواحد تعتبر حجر أساس لإعادة بناء العلاقات الوطنية، بصرف النظر عن الهوية، شيعية كانت أم سنية. فالمهم هو تفادي وقوع تصادم بين الطوائف. وكلما اختلف الشيعة على توزيع الحكم بينهم، أصبح تلاقي القوى الوطنية منهم مع القوى الوطنية الأخرى مفتاحا رئيسيا لإعادة بناء وطن مدمر.

وتشير المعلومات، ومنها ما نشر في «الشرق الأوسط»، إلى أن الائتلاف بدأ يرد على إصرار المالكي على التمسك بالحكم، بالتلويح بإثارة ملفات كثيرة تتعلق بإدارة الدولة، والفساد، والاستخدام المفرط للقوة كالذي حدث في البصرة، والسجون السرية، والتجاوزات القانونية. وبما أنه (الائتلاف) يمتلك معلومات ووثائق أكثر من غيره، بحكم وجوده داخل المؤسسات، فإنه يمثل تهديدا جديا لمستقبل المالكي وحزب الدعوة. ويعني هذا أن العملية قد تنتهي بطحن العظام السياسي.

أمام هذا الواقع الذي يعتبر حالة صحية، لأنه يقوي التوجهات الوطنية، فإنه من المفترض أن تقرأ «الكتلة العراقية» الرسالة كما ينبغي بحنكة عالية، وألا تنجر كثيرا وراء مطالب الحوار مع كتلة المالكي، التي جعلت اللقاء بين علاوي والمالكي قصة وموضع تندر، في تأخيرها إياه مرات كثيرة. فالمالكي يسعى إلى إثارة الشكوك لدى الائتلاف وابتزازه للحصول على أكثر ما يمكن من التنازلات.

الذين كتبوا الدستور فاتهم - ربما بسبب نقص الخبرة - تثبيت نص يحرم تجديد ولاية رئيس الوزراء حصرا إلا بعد مرور عدة عقود. لأن الجمع بين السلطة والثروة كثيرا ما يقود إلى الديكتاتورية. وعلى الرغم من عدم وجود مثل هذا النص، فإنه يجب أن يكون هذا التوجه عرفا يعمل به، ريثما تعاد كتابة الدستور في أجواء مناسبة ومستقرة.

ومن الأشياء التي سجلت للائتلاف عموما والمجلس الأعلى تحديدا، معارضته العلنية لفكرة الزعيم القوي. فالقوة لا تأتي بالحديث بصوت مرتفع كما قال عبد المهدي - في رده غير المباشر على المالكي- ولا بالاستئثار بالسلطة، ولا بالاستخدام المفرط للقوة، ولا بالسجون السرية، ولا بعدم معالجة ملفات الفساد، ولا بتردي الخدمات ووصف مظاهرات الاحتجاج على سوء الخدمات بأعمال الشغب، ولا بمحاولة تكريس النفوذ الفئوي. وإنما تكون فقط بالمشاركة الواسعة في صياغة القرارات واتخاذها، وبإقامة العدل، وإلا أصبحت طريقا للتأسيس لديكتاتورية مقيتة. ومن حق العراقيين ممارسة نشاطات ديمقراطية لوقف حالة تردي الخدمات، لكن المعضلة السياسية قد تكون أهم، ومستقبل الأوطان أهم من الكهرباء. ومن حق الناس التدخل بالوسائل الديمقراطية لتصحيح الأوضاع ووقف ممارسات الاستئثار بالسلطة، ومنع الحاكمين من التشبث بكراسيهم بطرق التفافية أو استغلالا لظروف شاذة أوجدتها صياغات خاطئة مررت في مرحلة عسيرة.

لقد نجح العراقيون في تجاوز الكثير من المشكلات، وهم الآن أمام اختبار يتعلق بسلامة وطنهم. فالرأي الشعبي المتحضر أقوى من كل التدخلات الخارجية، وحتى المرجعيات صوتها مرحب به عندما يدعو صادقا إلى تغليب «الوطنية» على أي شيء آخر. فالوطن لا يصلح للعيش ولا ينعم بالاستقرار إلا عندما يكون محصنا من الطائفية. وعسى أن يبقى الائتلاف متمسكا بالطرح الوطني.