متى ينزل لبنان عن «الصلبان» التي علق عليها؟

TT

بات واضحا أن المشهد السياسي اللبناني قد تغير كثيرا في هذه السنة التي أعقبت الانتخابات النيابية الأخيرة وتأليف حكومة الوفاق الوطني. فمن يتأمل في الوجوه التي كانت حاضرة في حفلة الغداء التي أقامها الزعيم الدرزي وليد جنبلاط تكريما للسفير السوري في لبنان، ويسمع الكلمة التي ألقاها منددا بالحياد اللبناني وداعما لسلاح المقاومة، يدرك مدى ابتعاده عن فريق «14 آذار» الذي «ناضل» معه أربع سنوات ونيف في سبيل استعادة لبنان استقلاله وسيادته. ولكن جنبلاط ليس وحده بين السياسيين والأحزاب ممن «كوعوا» أو اتخذوا مواقف متميزة عن مواقفهم، بالأمس القريب. ففي جلسة المجلس النيابي الأخيرة التي طرح فيها مشروع قانون إعطاء اللاجئين الفلسطينيين «بعض الحقوق المدنية»، تباينت مواقف النواب المسيحيين العونيين مع مواقف «حلفائهم» نواب حزب الله و«أمل»، وانقسمت القوى السياسية اللبنانية طائفيا لا وطنيا.

وفي موضع آخر، ولد تكتل سياسي بقيادة الرئيس سليم الحص يضم مجموعة من الناشطين السياسيين اليساريين والتقدميين والعلمانيين وممثلين عن بعض الأحزاب القومية واليسارية العريقة. وهو يطمح إلى إقامة «جبهة ثالثة» مستقلة عن تكتلي «14 آذار» و«8 آذار»، تتبنى شعارات قومية ووطنية وسياسية تعود إلى حقبة ما قبل الحرب اللبنانية، التي يمكن وصفها بالقومية الاشتراكية أو البعثية - الناصرية.

من يستعرض التكتلات والأحزاب والتحالفات السياسية في لبنان، ويضيف عناوينها وشعاراتها إلى الواقع السياسي الراهن وإلى التيارات السياسية الإقليمية والدولية المتنافسة والمتخذة من لبنان ساحة لتصفية حساباتها، يدرك كم هو صعب حكم هذا البلد الصغير، وكم هو شبه مستحيل عليه استعادة استقراره وازدهاره والدور الذي لعبه، يوما، في العالم العربي.

من هنا يمكن أن يتفهم الإنسان - أو لا يتفهم - مثلا، لماذا امتنع لبنان عن التصويت على العقوبات على إيران في مجلس الأمن، ولماذا يسكت أو يؤيد فريق من الرؤساء والوزراء الإبقاء على سلاح حزب الله بينما يعارض البعض الآخر ويتحفظ، أو يصمت آخرون، ولماذا يطبق - أو لا يطبق - الحكم اللبناني قرارات مجلس الأمن، وإذا ما كانت العلاقات بين لبنان وسورية قد تحسنت، وإلى أي درجة، ومن هو الفريق أو من هم السياسيون الذين باتت سورية «تعتمدهم» في لبنان، أو ترضى بالتعاون معهم، أو من هم الذين من الصعب عليها وعليهم التعاون، وما هي شروط التعاون والرضا.إن لبنان «مصلوب» اليوم بين الولايات المتحدة وإيران، وبين الاتحاد الأوروبي وسورية، وبين إسرائيل والمقاومة الإسلامية، وبين خطة السلام العربية وجبهة الرفض والممانعة، وبين المدافعين عن سلاح حزب الله والمطالبين بحصر مسؤولية الدفاع في يد الدولة، وبين عشرين حزبا وتكتلا سياسيا وبضع مئات من السياسيين والزعماء الطائفيين والمذهبيين والمحليين، رافعين شعارات أكبر من أحجامهم، بل وحجم وطاقة لبنان، وغير عابئين - كما يبدو - بحقيقة ما يريده المواطنون، أي العمل والكهرباء والحرية والسلامة والسلام.

متى وكيف سيتمكن لبنان من «النزول عن الصلبان» التي علق عليها بإرادات خارجية أقوى من إرادة أبنائه؟ لا أحد يدري متى وكيف. ربما عندما ينتهي الصراع العربي - الإسرائيلي، أو ربما عندما تتوقف النزاعات العربية - العربية، والإسلامية - الإسلامية، والأميركية - الإيرانية - السورية. هذا إذا كانت ستتوقف يوما!

إن قيام إسرائيل على حدود لبنان بعد خمس سنوات من استقلاله واتفاق مسلميه ومسيحييه على «ميثاق وطني» للتعايش والتعاون والمواطنة الواحدة، شكل الضربة الأولى في هذا الميثاق. وجاءت الحرب الباردة والتيارات العقائدية القومية واليسارية لتعصف بـ«الصيغة الوطنية» اللبنانية الطرية العود، لتهزها أكثر من مرة. ثم كان انتقال المقاومة الفلسطينية من الأردن إلى لبنان في أواخر الستينات الذي ألقى بوزنه على السياسة الداخلية وأدى بتداخل النزعات اللبنانية - اللبنانية فيه إلى نشوب حرب أهلية - طائفية بين اللبنانيين، وإلى احتلال إسرائيلي ومن ثم إلى وجود عسكري سوري على الأراضي اللبنانية ورعاية سورية دامت ثلاثين عاما. ومن ثم إلى ولادة مقاومة إسلامية برعاية إيران، باتت بعد نجاحها في إخراج إسرائيل من الجنوب وصمودها أمام عدوانها عام 2006 تضغط بسلاحها الصاروخي الثقيل على السياسة والحكم في لبنان، وتشكل ذريعة تنتظر إسرائيل الفرصة الدولية لاستغلالها في القيام بعدوان جديد على لبنان.

وعلى الرغم من كل ذلك فإن اللبنانيين يؤملون في صيف سياحي ناجح يعيد إلى نفوسهم بعض الأمل في مستقبل أفضل مما تدل عليه التكتلات والاصطفافات والتحالفات والتكويعات والشعارات التي يطلقها السياسيون، مؤخرا، في سماء بلادهم.