المشكلة ليست في إطلاق اللحى

TT

كتب عثمان ميرغني يوم الأربعاء 23/6/2010 على صفحات هذه الجريدة مقالا تحليليا تحت عنوان «هل المشكلة في إطلاق اللحى؟» وتناول في مقاله ما قرره الحزب الإسلامي في الصومال بإصدار الأوامر بأن يطيل الرجال لحاهم ويحفون من شواربهم، بالإضافة إلى منع مشاهدة مباريات كأس العالم، وغيرها من قوانين شديدة تنم بما لا يدع مجالا للشك عن وصول هذا الفكر إلى مرحلة من التقهقر العقدي، إذ أصبحت ملامح المجتمعات وهوياتها تقاس بهذه المقاييس.

والموضوع الصومالي بطبيعة الحال غني عن التعريف لكل قارئ ومتابع، فهذه الدولة منذ انهيارها قبل 20 عاما يكابد شعبها في سبيل نيل الفرصة ليحيا حياة كريمة من جديد بعد أن عاث فيه فسادا في أول الأمر سياسيون فاشلون فتبعهم بعد ذلك أمراء حرب مجرمون ثم ميليشيات متطرفة كانوا جميعا في مراحلهم المختلفة يخدمون مصالح دول إقليمية تعتقد أن في الأزمة الصومالية فائدة لها، بينما الحقيقة هي أن الفأس إن لم تكن قد وقعت فعلا على رأس الجميع فهي في طريقها إلى ذلك مع ازدحام الصومال اليوم بأعداد من العرب وغيرهم ممن هم على فكر «القاعدة»، ويأملون في تأسيس الإمارة الإسلامية انطلاقا من الصومال، ودون أن نغفل القرصنة وأضرارها.

إن مقصدي من هذا المقال ليس الموضوع الصومالي أو قضية اللحى في الصومال وغيرها من بلاد المسلمين التي نكبت بأناس يتحكمون في مصالح شعوبها ويوزعون الفتاوى يمنة ويسرة، وهم أصلا ذوو عقول خاوية وألباب جوفاء حسبما لمح عثمان ميرغني، لكن ما أثارني في هذا الأمر هو ما ذكره منقولا عن مسؤول إسرائيلي أدلى بتصريحات في فبراير (شباط) الماضي حول انعكاسات الوضع الصومالي على الكثير من الأمور في المنطقة، مؤكدا استعداد بلاده لإقامة علاقات مع «جمهورية أرض الصومال» الواقعة شمال البلاد، التي أعلنت الانفصال من جانب واحد منذ عام 1991، مشيرا في نفس سياق حديثه إلى أن «لدى إسرائيل علاقات في الوقت الحالي مع دول أفريقية في المنطقة مثل تنزانيا وأوغندا وجيبوتي».

هنا أود الوقوف مع هذا التصريح للمسؤول الإسرائيلي الذي يحمل في طياته الجدية والمناورة في نفس الوقت:

أولا: الجدية من حيث التعامل مع القضية الصومالية باعتبارها مهمة بالنسبة لإسرائيل، لكون الصومال على مضيق باب المندب، وهي استراتيجية لكافة دول حوض البحر الأحمر التي جميعها عربية (اليمن، والسعودية، والسودان، وجيبوتي، ومصر، والأردن) باستثناء (إسرائيل وإريتريا)، وهاتان الأخيرتان بينهما حلف متين قديم لا يخفى على أحد.

فالجدية أن إسرائيل تتعامل مع قضايا الأمة العربية بكثير من الحرفية والاستراتيجية والتخطيط المتعدد المنظور، بهدف بلوغ المرامي التي تحفظ لها اليد الطولى في المنطقة العربية على وجه الخصوص والعالم على وجه العموم؛ كون العرب أعداءها الأزليين.

بينما الأجهزة المتخصصة في الحكومات العربية لم تستوعب بعد ما المقصود بالاستراتيجيات، وما زالت حتى اللحظة تخسر أرضا وراء أرض وموقعا سياديا وراء آخر، رغم امتلاكها كل مقومات بسط النفوذ؛ وعلى رأس هذه المواقع القارة الأفريقية التي عليها المساحة الأكبر للعرب، سكانيا وجغرافيا، بما فيها الصومال الذي أصبح ساحة خصبة لتجاذبات إقليمية وتصفية حسابات دول أخرى غير عربية، وبطبيعة الحال فمصالح هذه الدول متعارضة مع مصالح شعوب الدول العربية عقائديا وثقافيا واقتصاديا وسياسيا.

ومع غياب الاستراتيجية العربية الموحدة التي ربما لا تعي بعد أن منطقة القرن الأفريقي في خاصرتها وهي المدخل الجنوبي للبحر الأحمر التي أصبحت محجا ومزارا بل ومقرا دائما لقوات دولية من بقاع شتى في العالم بما فيها اليابان التي خرجت من ديارها لأول مرة حتى تشارك جيوش العالم بحثا عن مصالح استراتيجية جديدة من خلال وجودها في جيبوتي إلى جوار القوات الفرنسية والأميركية والألمانية والإسبانية والإيطالية.

وهنا من البديهي أن تدخل إسرائيل على الخط وتستغل الفرصة لسحب البساط من تحت أقدام العرب.

ثانيا: مناورة المسؤول الإسرائيلي بأن لبلاده علاقة بعدة دول شرق أفريقية منها جيبوتي، تأتي من باب أن لإسرائيل فعلا علاقات وتمثيلا دبلوماسيا متبادلا مع كافة دول الشرق الأفريقي من حيث وجود سفارات لهذه الدول في تل أبيب، وأن لتل أبيب في المقابل سفارات في عواصم هذه الدول كـ«إثيوبيا وإريتريا وتنزانيا وكينيا وأوغندا». ولكن من المؤكد لا يوجد اعتراف من قبل جيبوتي بدولة الكيان الصهيوني (إسرائيل) مما يجعل استحالة وجود علاقات دبلوماسية بين جيبوتي وإسرائيل.

أما لماذا قال المسؤول الإسرائيلي ذلك؟

فواضح أن لديها (إسرائيل) الرغبة في أن توسع من نفوذها ووجودها في أكثر من موقع استراتيجي عربي بما في ذلك جيبوتي العصية على نفوذها بفضل مبادئ رئيسها واحترامه لمشاعر مواطنيه وإرادتهم بأن تظل بلدهم نقية من دنس الصهاينة؛ لذا لجأ المسؤول الإسرائيلي إلى هذا الغزل غير الحميد الذي لن يجد موقعا في عقول وقلوب الجيبوتيين ما دام أن إسرائيل ما زالت على غيها في رفض الحدود الدنيا من سبل الاعتراف بحق الفلسطينيين في حياة كريمة على أرضهم.

كما أن المسؤول الإسرائيلي يعرف تماما أن العرب ما زالوا يعتبرون جيبوتي بلدا عربيا صغيرا فقيرا من دول الأطراف، في الوقت الذي تعتبرها بقية دول العالم مدخلا استراتيجيا مهما على مضيق باب المندب وحوض البحر الأحمر الذي يمثل شريان الحياة بالنسبة للعالم، بالإضافة لكونها البوابة الآمنة والقنطرة المهمة للشرق الأفريقي.

إن إسرائيل تكذب وتفتري كعادتها ولكنها تخطط وتسعى لتحقيق مآرب استراتيجية من وراء كذبها وافترائها، حتى ولو تلبست بقميص يوسف.

إذن المشكلة ليست في إطلاق اللحى وإنما أعمق وأبعد من ذلك.

* دبلوماسي جيبوتي