بذور العلم

TT

التقدم العلمي والتكنولوجي العالمي المذهل الحادث الآن هو المحرك والقائد الرئيسي والأساسي للنمو والنشاط الاقتصادي في الأسواق العالمية حاليا، وما لم يتم تدريب الأفراد باستمرار للاستعداد لفهم وكيفية التعامل مع هذا التقدم العلمي واتجاهاته الحديثة المتسارعة، سوف يعاني اقتصاد الدول، كما سيواجه الأفراد مستويات معيشية منخفضة، وسوف يصبح إعداد الأفراد لمواجهة تحديات العلم والتكنولوجيا أكثر جدوى إذا تم منذ الصغر، ولقد أدركت مؤسسات الدول المتقدمة أهمية ذلك فأولت الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا عناية فائقة ومتزايدة، وبدأت بغرس بذور العلم والتكنولوجيا مبكرا لدى الأطفال، ورعايتها من خلال أساليب وبرامج مميزة غير تقليدية وغير رسمية، فبدأت هذه البذور في النمو الصحيح مثمرة علماء وروادا مبدعين محملين بالكثير من الإنجازات العلمية والتكنولوجية المذهلة في شتى المجالات، التي أحدثت الكثير من التحولات الاقتصادية والاجتماعية التنموية العالمية الهائلة.

و«بذور» العلم كثيرة وفريدة، من بينها وأهمها: الخيال، وحب الاستطلاع والاستكشاف، وحب التساؤل، والملاحظة، والاستنتاج، والتجربة، والاكتشاف، والفحص، وإجراء التجارب، والتنبؤ، وماذا يحدث لو، والمحاولة والخطأ، وغيرها. ولهذا هناك ضرورة وأهمية لرعاية وتنمية هذه البذور منذ الصغر، من خلال ما يسمى بـ«كراسة العالم الصغير»، للتنبؤ مبكرا بالمواهب العلمية المبدعة من أبنائنا ورعايتها، حيث يسجل فيها الطفل كل أفكاره واهتماماته وملاحظاته وتساؤلاته واستنتاجاته واستكشافاته، مهما كانت قليلة الأهمية، فقد يكون لها شأن عظيم في صناعة حاضرنا ومستقبلنا، ولنتذكر أن اكتشاف العالم الإنجليزي إسحاق نيوتن للجاذبية الأرضية ما كان ليتم لولا «تخيله» لأسباب سقوط التفاحة، وكيف أدت «ملاحظة» العالم الأسكوتلندي جيمس واط لتحرك غطاء إبريق الشاي صعودا وهبوطا إلى اكتشاف قوة البخار واختراع المحرك البخاري.

هناك اتجاهات عالمية الآن تركز على ضرورة أن يبدأ الاهتمام بالعلم والتكنولوجيا منذ الصغر، وخصوصا من خلال وسائل التربية العلمية غير الرسمية والمثيرة، مثل الأفلام والبرامج العلمية، والمعسكرات والمهرجانات والمتاحف العلمية، وزيارة معامل الجامعات ومراكز البحوث والمؤسسات والمراكز العلمية، والخيال العلمي ومواقع العلوم الإلكترونية للأطفال عبر الإنترنت، بالإضافة للكتب والمقالات العلمية المبسطة المزودة بالصور والرسوم التوضيحية المثيرة، وغيرها، التي يمكن أن تساهم جميعها بجدية في تغذية الاهتمام بالعلم لدى الأطفال طوال حياتهم.

وقد صدرت الكثير من التقارير العلمية العالمية الجادة التي تحذر من إهمال الاهتمام بالعلوم والرياضيات والهندسة، وتؤكد أهميتها لتحقيق النمو الاقتصادي والمنافسة العالمية السريعة، ومن هذه التقارير الصادرة مؤخرا، التقرير الصادر عن «الجمعية الملكية البريطانية» بعنوان «القرن العلمي: تأمين ازدهار مستقبلنا»، وقد تضمن 6 توصيات، هي: وضع العلم والابتكار في قلب استراتيجية المملكة المتحدة للنمو الاقتصادي على المدى الطويل، وأولويات الاستثمار في الأفراد المتميزين، وتقوية استخدام الحكومة للعلوم، وتعزيز وضع المملكة المتحدة كمحور لمواجهة التحديات العالمية، ووضع أفضل للعلوم والابتكار مع التحديات العالمية، وإعادة الحياة لتعليم العلوم والرياضيات. ومن بين المجالات التي أشار إليها التقرير وتتطلب تدخلا سريعا: العلوم للأطفال في المرحلة الابتدائية، وأن تدريس العلوم بكفاءة عالية في هذه المرحلة يمكن أن يزرع بذور الاهتمام بالعلم طوال الحياة.

ويذكر أن «الجمعية الملكية البريطانية»، واحدة من أقدم وأعرق الأكاديميات العلمية في العالم، وهي أعلى مؤسسة علمية بريطانية، وهي اختصار لعبارة «جمعية لندن الملكية لتحسين المعرفة الطبيعية»، وتحتفل هذه الأيام بمرور 350 عاما على تأسيسها، حيث تم تأسيسها رسميا في 28 نوفمبر (تشرين الثاني) عام 1660، وتضم في عضويتها أكثر من 60 حائزا على جائزة نوبل، وتعمل على نشر ودعم التميز في العلم من خلال الكثير من الأساليب المميزة مثل: دعم العلماء، والنصائح العلمية، والمناظرات العلمية، والعلاقات العلمية الدولية، ونشر الدوريات العلمية، وجوائز الإنجازات العلمية، وتشجيع البحث في تاريخ العلم، ومن بين أبرز العلماء الذين ارتادوا الجمعية الملكية، إسحاق نيوتن، وتشارلز دارون، وألبرت أينشتاين، ومايكل فراداي، وروبرت بويل، وروبرت هوك، وجيمس واط، وألكسندر فليمنغ.

وهذا التقرير الصادر عن «تأمين المستقبل من خلال الاهتمام بالعلوم» جاء من المملكة المتحدة، لكنه يثير ويطرح لدينا من جديد في عالمنا العربي الكثير من التساؤلات عن وضع العلوم والابتكار وعلاقتهما بالنمو الاقتصادي، وما نحن فاعلون تجاه تعزيز الاهتمام بالعلوم؟ والكل يشكو من ضعف الاهتمام والقصور والتقصير في تعليم العلم والتكنولوجيا وأسباب عزوف الكثير من الطلاب عن ارتياد مجالات العلوم والرياضيات والهندسة، والضرورية لتأمين حاضرنا ومستقبلنا.

لقد آن الأوان لعالمنا العربي للاهتمام الجاد بالعلم وغرس بذوره مبكرا، وطرح قضية تعليم العلوم والرياضيات وفق المعايير العالمية للنقاش باستمرار وكيف يمكن جعلها أكثر متعة وفائدة، مع الاهتمام بأساليب التربية العلمية غير التقليدية، وأهمية الاستثمار بشدة في المهارات والبحوث العلمية والهندسية لتأمين اقتصاد قوي، وحتى تكون لنا مكانة مميزة في سوق العلم والتكنولوجيا وتحدياتها ومنافساتها الهائلة.