لبنان وظاهرة تهم العمالة!

TT

قبل أسابيع اتصل بي أحد زوار بيروت قائلا إنه سيعاود الاتصال بي بعد قليل على خط تليفوني آخر، عن شأن ذي أهمية خاصة، لأنه لا يريد أن ينصت إليه أحد. قلت له: هوّن على نفسك فأنت في بيروت، لا تصدق أبدا، حتى لو بدلت هاتفك، أنك بمأمن من الآذان العديدة التي ترصد كل المكالمات باهتمام دقيق بالتفاصيل. بعد تلك المكالمة والنصيحة لم أسمع منه! فعلا، لا أظن أن هناك مجالا فضائيا مليئا بالمتلصصين، وسراق السمع، كما في سماء بيروت. كل القوى الرئيسية لها آذانها، وأجهزتها، وعملاؤها. حزب الله، وتيار المستقبل، والإسرائيليون، والسوريون، والأميركيون، والألمان، وربما الهنود والصينيون أيضا.

فلبنان اشتهر منذ عقود كساحة مفتوحة لحروب معلوماتية واستخباراتية، أجهزة محلية ضد بعضها، وأخرى إقليمية وكذلك عالمية. ورغم أن هذه الممارسات موجودة دائما، فإن توجيه تهم العمالة زاد بشكل هائل وعلى كل المستويات، بين المتهمين جزار وآخر عامل محطة بنزين وثالث بائع هواتف، كما يلاحظ الآن تسابق الأجهزة المختلفة على إطلاقها، حيث توجد ثلاثة أجهزة متنافسة. وبسبب اختلاف ميولها لقوى وأحزاب سياسية داخل لبنان، تجعل الفرد يتساءل: ما الصحيح في هذه الادعاءات؟ وهل الخلافات السياسية، والتنازع على الصلاحيات، بما فيه التنازع على الخدمات والأجهزة، يبرر التساؤل إن كانت بالفعل جميعها عمالة، أم أن بعضها تصفية حسابات سياسية؟ ويجب أن نتذكر وضع لبنان كبلد بلا سلطة مركزية واحدة، حيث لا تزال القوى السياسية في الحكم تتقاتل من أجل السيطرة على المؤسسات والمنافع الحكومية، وتحديدا على شركات الهاتف الجوال، كونها البقرة الحلوب الوحيدة في البلد، ولأن الهاتف مركز لجمع المعلومات. وهذا طبعا لا يلغي حقيقة أن القوى المتربصة، مثل إسرائيل، لا تدخر وسعا في تجنيد رجال لها.

وما القبض على موظف فني في شركة الهاتف الجوال اللبنانية، في الوقت نفسه الذي تتم فيه محاكمة عقيد في الجيش اللبناني بتهمة تجسسه لإسرائيل وتمكينها من معلومات عن مواقع الجيش، إلا بعض من كم كبير من الاتهامات الهائلة التي وجهت ضد لبنانيين على مستويات مختلفة لا نعرف ما هو الحقيقي فيها من الكيدي. كما أن جحافل المقبوض عليهم تثير التساؤل: لماذا الآن؟ فعدد المشكوك فيهم الموضوعين تحت الرقابة، كما يقول مصدر مطلع، بلغ نحو ألف شخص، وعدد الذين ألقي القبض عليهم نحو مائة شخص، والذين وجهت لهم التهم نحو الستين شخصا.

ومن المؤكد أن اتهام موظف فني في شركة الهاتف الجوال لا يخرج عن نطاق المعقول، رغم أنه موظف صغير، وذلك بحكم طبيعة وظيفته الحساسة، لكن للمرء أن يتساءل: هل تحتاج دول، مثل إسرائيل والولايات المتحدة، إلى تجنيد فنيين وهي تملك أضخم شبكة تنصت في العالم مزروعة في قبرص وعلى سفن قبالة لبنان؟ فأكبر جهاز استخباري في الولايات المتحدة ليس الـ«سي.آي.إيه»، بل وكالة الأمن القومي المكلفة بالاستماع إلى المكالمات، والتلصص عبر الأقمار الصناعية، وتمارس معظم نشاطاتها التجسسية في فضائنا.

وأعرف أن هناك من يرى في التحقيق نزاهة، لأن الجيش أو الأمن أو غيرهما من الأجهزة هي التي تتولى التحقيق وليس فقط حزب الله، إلا أن المتابع للشأن اللبناني يسمع الشكوى من ميول الأجهزة نحو معسكرات سياسية لبنانية بعينها، وفي الوقت نفسه لا توجد بعد مؤسسات تحقيق ومحاسبة موحدة ومستقلة يتفق عليها اللبنانيون.

[email protected]