الأردن مع التكتلات الاقتصادية وضد «التمحورات» السياسية

TT

فُهِمتْ تصريحات وزير الخارجية الأردني ناصر جودة، التي أدلى بها خلال اجتماع في اسطنبول في التاسع من شهر يونيو (حزيران) الماضي ضمَّه وكلا من وزراء خارجية تركيا أحمد داود أوغلو، وسورية وليد المعلم، ولبنان علي الشامي، فُهِمتْ خطأً على أنها إعلان عن إقامة محور إقليمي سياسي من هذه الدول المشار إليها، وقد أثار هذا بعض التساؤلات، إن ليس علنا ففي الدوائر المغلقة، لدى بعض دول هذه المنطقة العربية وغير العربية.

ولعلَّ سبب هذا الالتباس الذي أدى إلى مثل هذه التساؤلات، أن تصريحات وزير الخارجية الأردني هذه قد فُهمت على أنها «وثيقة» إعلان نوايا في اتجاه قيام الدول الأربع، الأردن وتركيا وسورية ولبنان، بإنشاء مجلس تعاون «استراتيجي عالي المستوى» هدفه تعزيز العلاقات الوثيقة بين هذه الدول، مع أن ناصر جودة لم يقُل هذا مباشرة ولم يقصد بأي شكل من الأشكال إقامة محور سياسي رباعي، وذلك خلافا للمساعي التي تبذلها بعض الدول العربية من بينها المملكة الأردنية الهاشمية.

ما تضمنه «إعلان» ناصر جودة في اجتماع اسطنبول الرباعي الآنف الذكر بشكل رئيسي هو أولا: إلغاء التأشيرة بين هذه الدول الأربع، وثانيا: إنشاء منطقة تجارة حرة مشتركة لتعزيز التعاون الاقتصادي والتجاري والاستثماري، وحقيقة أن هذا هو القائم والمعمول به الآن بين الأردن وتركيا ولبنان وسورية، وهو لا يحتاج إلا لعرضه في هيئة اتفاقية واضحة ومحددة على المؤسسات الدستورية بين هذه البلدان لتصبح ملزمة وبعيدة عن الاجتهادات الشخصية لموظفي الحدود.

وبهذا الخصوص قال وزير الخارجية الأردني إن الهدف هو مأسسة وتأطير العلاقات القائمة بين هذه الدول، وبخاصة في المجالات الاقتصادية والتجارية «إلى جانب العلاقات السياسية المميزة» وهو أكد على أن هذا لا يشكل محورا مغلقا بل هو مفتوح لكل الدول الشقيقة والصديقة الراغبة في الانضمام. لكن يبدو أن هذه التأكيدات لم تكن كافية لتبديد مخاوف بعض البلدان التي لديها خشية من إقحام هذه المنطقة مجددا في تمحورات سياسية على غرار ما كان عليه الوضع في أيام الحرب الباردة وصراع المعسكرات، وفي فترة ما بعد غزو صدام حسين للكويت في بدايات تسعينات القرن الماضي.

وعلى سبيل المثال فإن لبنان، رغم مشاركة وزير خارجيته علي الشامي في اجتماع اسطنبول، قد أبدى لاحقا بعض التحفظ من أن يُفهم هذا «الإعلان» من قبل بعض الدول التي تربطها به وببعض مكوناته السياسية علاقات وطيدة على أنه دعوة لقيام محور سياسي وقيام تكتل ستعتبره بعض دول هذه المنطقة استهدافا لها. وهذا ما جعل الأردن يتحرك بسرعة لإيضاح حقيقة موقفه من هذا الأمر لبعض الدول الشقيقة وفي مقدمتها مصر والمملكة العربية السعودية.

وحقيقة أن الأردن، وهذا يعرفه كل الأشقاء وكل الأصدقاء، ضد إقحام الواقع العربي الذي يعاني من أوجاع كثيرة في استقطابات وتمحورات سياسية مختلفة وضد تحويل هذه المنطقة إلى خنادق متحاربة وإلى معسكرات متصارعة. ولهذا فإنه بقي يعارض ما تقوم به إيران من تدخلات في الشؤون العربية الداخلية سواء في منطقة الخليج العربي أو في لبنان واليمن والوضع الفلسطيني الذي إنْ كان الآخرون لديهم ترف التعاطي مع مثل هذه الاستقطابات والتمحورات، فإنه بحاجة إلى مساندة ودعم العرب كلهم.

إن الأردن يرى أن من حقِّ أي من دول هذه المنطقة، حتى بما في ذلك إيران وتركيا، أن تقيم أسواقا اقتصادية مشتركة وأن تُبرم فيما بينها اتفاقيات تجارة حرة وأن تنسق مواقفها السياسية سواء بالنسبة للقضية الفلسطينية، التي هي قضية العرب الأولى، أو بالنسبة للأوضاع المتفاقمة في العراق، وأيضا بالنسبة لمواجهة الإرهاب والتصدي له بكافة الأشكال والوسائل. لكنه - أي الأردن، وهذه حقيقة من المفترض أنها معروفة للجميع - ضد سياسة الاستقطابات والتمحورات وضد العودة إلى ذلك الصراع التاريخي بين «قيس ويمن» وإلى «غساسنة ومناذرة» والتوزع بين الغرب والشرق في مرحلة صراع المعسكرات في خمسينات وستينات وسبعينات القرن الماضي.

ولعل ما يجب إيضاحه ونحن بصدد الحديث عن هذه المسألة المهمة جدّا أنه لم يكن هناك محور اعتدال يضم الأردن والمملكة العربية السعودية ومصر مقابل ما كان يعتبر محور تشدد أو «فسطاط ممانعة» الذي يضم إيران وسورية وحزب الله وحركة حماس، ويتقارب مع قطر والجزائر والسودان. فكل ما في الأمر أن هذه الدول الثلاث، أي السعودية ومصر والأردن، كانت متفقة، وهي لا تزال متفقة، على دعم السلطة الوطنية ومنظمة التحرير ورفض أي تلاعب بالوحدة الوطنية الفلسطينية. وكانت متفقة، وهي لا تزال متفقة، على رفض أن تحشر إيران أنفها في الشؤون العربية الداخلية وأن تتدخل تدخلا سافرا في الشأن العراقي والفلسطيني واليمني واللبناني.

وأيضا فإن ما يجب إيضاحه هو أن هذه الدول الثلاث، المملكة العربية السعودية ومصر والأردن، هي التي حالت دون إقحام قمة سِرْت الأخيرة في محاولات استقطاب وتمحورٍ كانت أعدت لها بعض الدول العربية عشية هذه القمة من خلال الاتفاق مع الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد عمرو موسى على جدول أعمالٍ خلافي تضمن بنودا «ملغَّمة» من بينها البند الداعي لما سُمي تحالف دول الجوار والبند المتعلق باستبدال صيغة الجامعة العربية الحالية بصيغة جديدة. وهذا بالإضافة إلى طرح اقتراح خلافي آخر يتعلق بإيجاد مُفوّضية للقدس ومفوّضية للإعلام العربي.

إنه لا شك في أن هناك تمحورات واستقطابات عربية كادت أن تفجر الوضع العربي لو أن خادم الحرمين الشريفين الملك عبد الله بن عبد العزيز لم يبادر إلى تلك الخطوة الجبارة التي اتخذها والتي حوَّلت قمة الكويت الاقتصادية من قمة فرقة وتباعد وتناحر إلى قمة الخطوة الأولى نحو استعادة التضامن العربي. وحقيقة أن الأردن كان في مقدمة الأشقاء الذين أسعدتهم هذه الخطوة والذين أيدوها وساندوها بكل ما لديهم من إمكانيات وأنه لجأ ليس في بعض الأحيان بل في كل الأحيان إلى أن يعض على الجرح ويتجاوز بعض الإساءات «الشقيقة» حرصا منه على اتفاق العرب إزاء قضاياهم الرئيسية المعروفة، وإن في الحدود الدنيا.