الجواسيس الذين خرجوا من الضواحي

TT

كشف النقاب عن شبكة من عملاء الجاسوسية الروس يبدون ويتحدثون مثل أي مواطن أميركي عادي! وقد كلفت هذه المجموعة من الجواسيس، التي تقطن ضواح حضرية، باختراق «دوائر صنع السياسات» الأميركية وإرسال تقارير عنها إلى موسكو! إذن، هل عادت الحرب الباردة؟

لا، ليس بالضبط، ذلك أن الحرب بالنسبة لأجهزة الاستخبارات لدى الجانبين - والتي تضم مكتب التحقيقات الفيدرالي و«إس.في.آر»، خليفة «كيه.جي.بي» - لم تضع أوزارها قط.

الواضح أن الروس يعشقون إرسال «عناصر غير قانونية» - وهم جواسيس عادة ما ينتحلون هويات أميركيين حقيقيين (أو موتى) - وذلك على النقيض مما جرت عليه العادة خلال الحرب الباردة من إرسال الجواسيس في صورة دبلوماسيين. نظرا لأن العناصر غير القانونية تتصرف على نحو طبيعي للغاية بالنسبة للأميركيين وتعمد إلى إكمال الصورة بعقد حفلات شواء في الهواء الطلق واصطحاب شباب مراهقين جامحين، فإنه يصبح من المستحيل كشفهم، إلا إذا اتصلوا، مثلما فعل بعض الجواسيس الـ11 الذين ألقي القبض عليهم هذا الأسبوع، بضباط استخبارات روسي من أعضاء البعثة الروسية لدى الأمم المتحدة أو القنصلية الروسية في مانهاتن. حينئذ، يمكن لعملاء الاستخبارات المضادة التابعين لمكتب التحقيقات الفيدرالي، الذين يبقون المسؤولين الروس نصب أعينهم دوما، الاشتباه فيهم والكشف عنهم.

أما الأمر الجديد بالنسبة لشبكة العناصر غير القانونية، التي كشف عنها مكتب التحقيقات الفيدرالي هذا الأسبوع، فهو الأساليب التقنية المتطورة التي استغلوها في الاتصال بـ«ياسينيفو»، مقر رئاسة «إس.في.آر» الخاضع لسرية بالغة في موسكو. لقد ولى زمن الأساليب القديمة التي تمثلت في ترك وثائق في أنابيب تصريف أو أسفل جسور للمشاة، مثلما اعتاد الجاسوسان الأميركيان ألدريك أميز وروبرت هانسين. أما هذه العناصر غير القانونية الجديدة فاعتمدت على حواسب آلية نقالة وأنشأت شبكات خاصة لاسلكية للاتصال بمسؤولين روس موجودين داخل شاحنة كانت تقف بالقرب من مقهى في إيث أفنيو ومكتبة لبيع الكتب في تريبيكا ومطعم في واشنطن.

وقد استغلت شبكة الجواسيس علم إخفاء المعلومات، وهو تكنيك يعتمد على استغلال برنامج بالغ السرية لدمج رسائل مشفرة في صور عادية على مواقع عادية على شبكة الإنترنت. ولم يكن بمقدور أي شخص قراءة هذه الرسائل سوى خبراء تابعين لـ«إس.في.آر» في موسكو باستخدام نفس البرنامج. ومثلما اتضح، فإن جواسيس اليوم، مثل أي شخص آخر، يستخدمون شبكة الإنترنت.

وقد كان هذا الأمر مكلفا بالنسبة للروس، الذين اضطروا إلى تدريب ودعم عملائهم هنا، وكذلك كان الحال بالنسبة لمكتب التحقيقات الفيدرالي الذي قضى سنوات يتعقب آثارهم. يذكر أنه لم يجر توجيه الاتهام بالتجسس إلى أي منهم، مما يعني أنه لم يتم ضبط أي منهم وهو يتلقى وثائق من مسؤولين حكوميين. بدلا من ذلك، جرى توجيه اتهامات إليهم بالفشل في تسجيل أنفسهم كعملاء أجانب وغسل الأموال.

والتساؤل هو: ما حجم الأسرار التي يمكن لجاسوس روسي يعيش في يونكرز أو مونتكلير في نيو جيرسي الحصول عليها فيما يخص البيت الأبيض أو البنتاغون أو وكالة الاستخبارات المركزية؟ حال عدم الكشف في الفترة المقبلة عن وجود قنابل، فإن «إس.في.آر» على ما يبدو لم يجن كثيرا مقابل الاستثمارات التي وجهها لهذه الشبكة.

ويثير واضعو نظريات المؤامرة بالفعل تساؤلات حول السر وراء الإعلان عن عمليات إلقاء القبض على أفراد الشبكة بعد أيام قلائل من زيارة الرئيس الروسي ديمتري إيه. ميدفيديف. هل يبعث البيت الأبيض برسالة من وراء ذلك، أم أن مكتب التحقيقات الفيدرالي يحاول تشويه صورة التقارب بين البلدين؟

الاحتمال الأكبر أن كلا التفسيرين خاطئ. يذكر أن الدعوى الجنائية المتعلقة بالقضية كشفت أن عميلا سريا لمكتب التحقيقات الفيدرالي يتحدث الروسية التقى، السبت، آنا تشابمان، واحدة من العناصر غير القانونية، وأصدر إليها تعليمات بتسليم جواز سفر مزور إلى عنصر غير قانوني آخر مفترض في اليوم التالي باستخدام الحوار التالي ككلمة سر: «أستميحك عذرا، لكن ألم نلتق في كاليفورنيا الصيف الماضي؟» «لا، أعتقد أنها كانت ذي هامبتونز».

لكن على ما يبدو تشككت تشابمان في الأمر واشترت هاتفا جوالا لا يمكن ربطه بها واتصلت بموسكو لتتعرف على حقيقة الأمر. ولم تحضر قط إلى اللقاء المتفق عليه الأحد. وخوفا من أن ينتهي الأمر عند هذا الحد، سارع مكتب التحقيقات الفيدرالي بالتحرك وألقى القبض عليها وتسعة آخرين. ودائما ما ينتهي الحال بالمكتب، مثلما الحال مع «إس.في.آر»، عاجزا عن إظهار إنجاز كبير بعد عمل مضن على مدار عقد كامل. لكنّ عملاءه على قناعة بأن الحروب الباردة تشتعل وتخبو، لكن الجواسيس الروس سيبقون في البلاد إلى الأبد.

* خدمة «نيويورك تايمز»