في الحاجة إلى حياد الدولة

TT

ثمة مشروعان كبيران كانا وما زالا يتصارعان على عقل وقلب الرقعة الإسلامية الواسعة إلى يومنا هذا؛ مشروع أول يراهن على فرض نوع من العلمانية الشمولية والفوقية عبر الاستخدام التعسفي لأنياب الدولة تحت إدعاءات التحديث والعقلنة وجلب التقدم الموعود، وتعد «الأتاتوركية» التي شكلت وجه تركيا الحديث منذ عشرينات القرن الماضي التعبير الأكثر كثافة عن هذا النموذج. ومشروع ثان يراهن على إدخال أسلمة فوقية وإكراهية للمجتمع باستعمال أذرع الدولة ومؤسساتها، وتعد «إيران الخميني» التي تشكلت من رحم ثورة 79 مثالا مجسدا لهذا التوجه، حيث تنزع الدولة هنا إلى فرض مذهبية شيعية صارمة تم التنصيص عليها في الدستور الإيراني.

وعلى الرغم مما يبدو من اختلاف آيديولوجي وسياسي ظاهر بين هذين المشروعين، فإنه يتبين، عند التمحيص والنخل الدقيقين، وجود مساحة تقاطع واشتراك كبيرة بينهما، سواء أكان ذلك من جهة الرؤية العامة للمجتمع المراد علمنته أو أسلمته، أم من جهة طبيعة الوظائف الموكولة للدولة، وربما يعود هذا إلى أن هذين المشروعين الكبيرين اللذين غمرا عصرنا الراهن هما من إفرازات آيديولوجيابت التحديث التي ترى في الدولة القاعدة الأمامية والطلائعية لتغيير الاجتماع السياسي برمته عبر الفعل السياسي الموجه والمبرمج، وهي آيديولوجيات تستمد جذورها من يعاقبة الثورة الفرنسية مرورا بالثورات السياسية الحديثة. الحقيقة أن التيارات الإسلامية الراهنة، ومهما بدا عليها من تبرم إزاء الحداثة، تظل في نهاية المطاف مزيجا مركبا من الاستجابة والاحتجاج على هذه الحداثة بكل عثراتها ومكاسبها، وليست مجرد استمرار مع الموروث الفقهي والسياسي الإسلامي على ما يتصور الكثير.

لا يحتاج المرء إلى حشد كثير من الأدلة الفكرية والسياسية ليبرهن على الصعوبات الهائلة التي يواجهها هذان النموذجان؛ إذ يكفي أن يتأمل واقع التباعد الحاصل الذي يصل حد الصدام أحيانا، بين وجهة المجتمع ووجهة الدولة حتى يقف عند هذه الحقيقة الصارخة التي لا مراء فيها. ففي تركيا مثلا، حيث يحظر القانون حق النساء التركيات في ارتداء الحجاب، تتجه نسبة كبيرة منهن إلى تغطية الرأس في شكل من أشكال التحدي الصامت لآيديولوجيا العلمنة الصارمة، أما في إيران، البلد الذي يفرض فيه ارتداء الحجاب بقوة الإلزام القانوني، تتجه النسوة هناك بضرب من التحايل على القانون إلى نزع جزئي أو كلي للحجاب. وهذا المشهد لا تخطئه العين عند التجول في كبريات المدن الإيرانية، ويكفي الواحد أن يركب طائرة من إيران إلى أي من العواصم الغربية حتى يقف بأم عينيه على هذه الظاهرة، وكيف تتغير هيئة النسوة بالكامل، إلى آخر طراز من الموضة الغربية، بمجرد مغادرة الأجواء الإيرانية. هذا يعني في ما يعنيه أن الدولة في كلتا الحالتين عجزت عن فرض منطقها الخاص على المجتمع وما تراه مباحا وممنوعا في مجال نظام السلوك والقيم.

الواضح هنا أن تركيا العلمانية الصارمة يتسم مجتمعها بملمح ديني متزايد، وإيران الإسلامية الشيعية يتراجع فيها الالتزام الديني بشكل ملموس، خاصة بين قطاعات الشباب الأكثر انجذابا إلى الأذواق وأنماط الحياة الغربية المنسابة بدورها عبر تأثيرات العولمة الثقافية المتمددة.

لدينا ما يشبه القاعدة العامة مستخلصة مما يجري في الرقعة الإسلامية الواسعة، وهي أنه كلما نحت الدولة نحو فرض علمانية إكراهية وفوقية، كما هو الشأن في تركيا مثلا، اتجه الناس تلقائيا نحو مزيد من الاعتصام بهويتهم الدينية، وكلما نحت الدولة منحى فرض أسلمة فوقية، كما هو الشأن في إيران، جنح الناس بصورة متزايدة نحو الخروج على المألوف الديني. المسألة هنا لا علاقة لها بموقف محدد من الدين أو العلمانية في حد ذاتهما بقدر ما لها علاقة بالحرية ورفض الإذعان لقوة الإكراه والحظر، خاصة في ما يمس القناعات أو الاختيارات الفردية، فليس أقسى على المرء من أن يتدخل الآخرون في تحديد هيئته وملبسه وذوقه، وما يعتمل في ضميره.

تركيا اليوم تحاور عقلها وقلبها وهي تتلمس طريقها الخاص للخروج من هذا المأزق الذي ورطت فيه الدولة نفسها ومجتمعها، وهي تسير بصورة هادئة وتدريجية نحو التخلص من الإرث التدخلي الأتاتوركي الذي وضعها في موقع صدام مزمن مع هوية الشعب، ومع التكوينات الإثنية غير التركية، لصالح دولة أكثر حيادا وانفتاحا وأقل تدخلا، وهذا ما يسمح بالقول إن العلمانية التركية تسير نحو التخلص من غلوائها لصالح علمانية أكثر انفتاحا وتصالحا مع ثقافة المجتمع، ولن يمضي وقت طويل حتى تتحول إيران بدورها إلى نظام إسلامي أكثر انفتاحا وأقل مذهبية حصرية على الأقل.

الدرس المستخلص هنا، الذي يتوجب على الإسلاميين والعلمانيين التوقف عنده هو أن تدخل الدولة في خيارات الناس وأنماط حياتهم وأذواقهم سواء باسم العلمانية أو الدين لن يجلب في الغالب الأعم إلا مزيدا من الأتعاب على المجتمع والدولة على السواء. فكلما ارتبطت الأفكار بأدوات الدولة تحولت إلى مدونة إكراهية من الموانع والزواجر التي يضيق بها الناس ذرعا وتثير فيهم بواعث التحلل منها والتحايل عليها، ومن ثم تصبح الدولة الآلة المنتج الأكبر للنفاق. والسؤال المطروح هنا: ما العمل إذا كانت الدولة العلمانية تثير حفيظة الناس وحنقهم، والدولة العقائدية الدينية تثير بدورها ضيقهم وتبرمهم؟

على الرغم من أنه لا يمكن الحديث عن حلول سحرية ونهائية في مجال الاجتماع السياسي، فإن ما هو مؤكد أن الدولة المحايدة التي تحترم في الوقت نفسه ثقافة المجتمع وقيمه العامة، تمثل أفضل الخيارات الممكنة، ولك أن تقول أقل الخيارات سوءا على الأقل، المتاحة أمام مجتمعاتنا للخروج من محنة الاستقطاب والتوتر المستمرين بيد الدولة والمجتمع في الرقعة العربية والإسلامية، وأقول هنا أقل الخيارات سوءا لأنه لا توجد دولة خيرة أو فاضلة بالطبيعة، بل إن كل الدول، أو الملك بتعبير ابن خلدون، ينزع حتما نحو الانفراد والمجد بغض النظر عن الفضائل الأخلاقية أو الملمح الآيديولوجي الذي يتخذه. إن مثل هذا التصور المرتاب والمتوجس من الدولة هو ما يسمح بتوقي شرورها واستبدادها.

والمقصود بالدولة المحايدة هنا تلك التي تكتفي برعاية الشأن العام وخدمة مصالح مواطنيها بدل التدخل لفرض أنماط معينة في الملبس والهيئة والسلوك والذوق. فالدولة المحايدة معنية بخدمة الناس وتصريف معاشهم وحماية أمنهم واستقرارهم وليس بتحديد ما يلبسون وما لا يلبسون، أو ما يسمعون وما لا يسمعون.

فإذا كان مطلب العلمنة يثير قدرا غير قليل من الإعراض والتبرم لدى جمهرة واسعة من المسلمين بحكم الطابع الإشكالي لهذا المصطلح من جهة أولى، ثم لما اقترن به من شبهة المروق من الدين من جهة أخرى، فإن مقولة حياد الدولة يمكن أن تكون بديلا مقبولا من الجميع. لقد تبين لي فعلا، أن مفهوم العلمانية حتى ضمن سياقات الاستخدام الغربي بالغ الالتباس، ومن التعسف اختزاله في فصل الدين عن الدولة أو حتى فصل الدين عن السياسية. ولهذا، من الأفضل هنا استبعاد هذا المصطلح من دائرة الاستخدام والنقاش، واستخدام مطالب ومفاهيم أكثر انضباطا وحدا.

وإذا وضعنا قضية المصطلحات جانبا وتناولنا الأمور في معانيها، فإنه يمكن القول إن مثل هذا الحياد كان شيء منه واقعا في تاريخنا السياسي الإسلامي. فقد طالب العلماء، ومنذ وقت مبكر، هم قبل غيرهم، ثم بصورة أوضح في حقبة المأمون الذي عمل على فرض الاعتزال بقوة الدولة، بالتزام الحكام بمقتضيات الشرعية الإسلامية العامة مع ابتعادهم عن الخيارات الاعتقادية والمذهبية للناس، وهو ما سمح تاريخيا بنشأة مدارس فقهية وكلامية ثرية ومجتمع أهلي نشيط مستقل عن أهواء الحكام وتقلباتهم ومصالحهم العابرة، ولعل هذا ما جعل مصير الإسلام أكثر ثباتا واستقرارا من مصائر الممالك والإمارات. وربما يبدو اليوم مطلب حياد الدولة أكثر إلحاحا من أي وقت مضى بحكم ما باتت تمتلكه الدولة الحديثة من قدرات رقابية وتدخلية هائلة إلى الحد الذي كادت تغيب فيه الحدود الفاصلة بين ما هو خاص وما هو عام. صحيح أن مقولة الحياد تظل نسبية لأنه لا توجد دولة محايدة بإطلاق ولا تحمل خلفية ثقافية معلنة أو خفية، ولكن هذا لا يلغي مساحة التمايز بإطلاق بين نموذج دولة تدخلية قهرية وأخرى منفتحة ومتسامحة.

لقد أقرت أغلب الدول العربية، بأن الإسلام يمثل المصدر أو المصدر الرئيسي للتشريع، مثلما أقرت بأن العربية هي اللغة الرسمية المعتمدة، وهذان العنصران بمعناهما العام كفيلان فعلا بتأسيس الحد الأدنى من الإجماع السياسي العام، شريطة ألا يقترنا بأي طابع استبعادي لأي من الأديان أو الطوائف، أو لأي من الانتماءات الإثنية الأخرى غير العربية. باختصار، يمكن القول إن حياد الدولة إزاء الخيارات الأخلاقية يمثل الحل، أو في الحد الأدنى، المقدمة اللازمة في اتجاه الحل الذي لن يكون في نهاية المطاف إلا جماعيا، وموضع حوار وتداول عام بين سائر القوى الاجتماعية والسياسية الفاعلة في الساحة العربية، فالحلول السياسية أو المجتمعية لا تتشكل من بطون الكتب أو إدعاءات بعض المجموعات الآيديولوجية الحصرية، بقدر ما تتشكل في خضم حركة التدافع العام، وطبيعة التوازنات التي تتشكل على أرض الواقع. هذه حقائق يجب استحضارها عند الحديث عما يسمى بالخيارات المجتمعية أو البدائل المستقبلية.

* باحث في الفكر السياسي والعلاقات الدولية