سياسة شيكاغو في هندوكوش

TT

شأنها شأن أي زوبعة إعلامية، من المحتمل أن تهدأ قريبا الزوبعة التي أثارتها استقالة، أو قل إقالة، الجنرال ستانلي ماكريستال. ما يسترعي الانتباه هو القصة وراء هذا الخبر، والتي قد تكون لها تبعات تتجاوز الحرب في أفغانستان.

وتدور هذه القصة الخلفية حول عدم قدرة، أو قل عدم رغبة، القيادة الحالية في الولايات المتحدة على أن تلزم نفسها بأي مسار عمل لأي فترة كبيرة من الزمن. ودعنا نأخذ في بادئ الأمر الجانب المتعلق بأفغانستان في هذه القصة.

ففي فبراير (شباط) عام 2009، طلب الرئيس الأميركي باراك أوباما من الجنرال ماكريستال إعداد استراتيجية جديدة لتحقيق الانتصار في الحرب في أفغانستان. الرئيس أوباما، الذي عارض إسقاط نظام الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين ووصف الحرب على العراق بأنها «حرب سيئة»، وصف حرب أفغانستان بأنها «حرب جيدة»، وانتقد سلفه جورج بوش، بشأن مزاعم بأنه لم يوفر الموارد الكافية لتحقيق النصر في هندوكوش.

لذلك، ظن الجنرال أن ما كان يفترض عليه القيام به هو وضع خطة للنصر. وفي مؤتمر صحافي في لندن العام الماضي، عرض ماكريستال علينا الخطوط العريضة لهذه الخطة. وطبقا لهذه الخطة فإنه كان في حاجة إلى 40000 جندي إضافي ومهلة زمنية تتراوح بين ثلاث وخمس سنوات من أجل تحقيق النصر. ومع ذلك، بمجرد تسليم الخطة إلى أوباما تم تحويلها إلى شيء مختلف.

أولا، تم حظر أي ذكر لكلمة «النصر» في الخطة. وسخر الرئيس من فكرة النصر قائلا إنها تُذكر باستسلام الإمبراطور الياباني هيروهيتو للجنرال ماك آرثر. وهذه هي المرة الأولى في التاريخ التي يدخل فيها قائد حربا وهو لا يسعى إلى تحقيق النصر.

ثانيا، قام الرئيس أوباما بتخفيض عدد القوات التي طلبها ماكريستال إلى 30000 جندي، وسيكون نصفهم فقط له مهام قتالية. وبدا الأمر أن ذلك لم يكن كافيا، حيث أمر بعد ذلك بوضع خطة لنشر القوات، سيتم بموجبها إرسال القوات الإضافية على دفعات صغيرة. وهذا هو ما يفسر لماذا استقال مع مرور الوقت، فلم يتلق الجنرال ماكريستال سوى أقل من نصف عدد الجنود الذين تم إقرار إرسالهم في الخطة. والآن يقال إن خطة نشر الجنود ستكتمل بنهاية العام الحالي. ولا يرجع هذا البطء إلى أي مشكلات لوجيستية أو نقص في عدد الجنود. ففي عام 2003، استطاعت الولايات المتحدة حشد نحو مائتي ألف جندي في أربعة شهور فقط من أجل إسقاط نظام صدام حسين في ثلاثة أسابيع.

وفي النهاية، جاءت القشة الأخيرة، التي قصمت ظهر البعير، حيث أعلن الرئيس أوباما أن سحب القوات الأميركية من أفغانستان سيبدأ في يوليو (تموز) عام 2011. وبما أن نشر الجنود سيكتمل بنهاية هذا العام، فإن ذلك يعطي المسؤولين عن الحرب هناك أقل من ستة شهور للقضاء على طالبان وبدء الانسحاب. وفي الحقيقة، سيكون هذا الإطار الزمني أقل بكثير، حيث إن الشتاء القاسي في أفغانستان، والذي يبدأ في نهاية سبتمبر (أيلول) ويستمر حتى نهاية أبريل (نيسان)، سيجعل القيام بعمليات عسكرية كبرى أمرا صعبا إن لم يكن مستحيلا. وبعبارة أخرى، فإن خطة أوباما تعتبر وسيلة سياسية للتحايل أكثر من كونها استراتيجية جدية للحرب.

ومن أين جاء تاريخ يوليو (تموز) 2011؟ هذا التاريخ ليس له علاقة بأفغانستان، بل بانتخابات الرئاسة الأميركية عام 2012. يأمل الرئيس أوباما أن تمنع صور جنود المارينز العائدين من أفغانستان منافسيه على الرئاسة من اتهامه بتوريط الولايات المتحدة في حرب لا نهاية لها.

لقد طبق أوباما ما تعلمه كسياسي في ولاية شيكاغو على السياسات الداخلية والخارجية في الولايات المتحدة. ففي سياسة شيكاغو، يعد الفكر أكثر أهمية من الواقع. ومن الضروري أيضا ربط الأمور بعضها ببعض من خلال منهج الأخذ والعطاء مع الخصوم الذين قد يصبحون أصدقاء يوما ما. والنتيجة هي مزيج ترى فيه الدوائر الانتخابية المتضاربة على الأقل انعكاسا لجزء من مصالحها. وفي سياسة شيكاغو أيضا، ليست كل المعارك تستحق القتال، ولا تنتهي أي من المعارك بانتصار حاسم لأي من الأطراف.

وفي النهاية، فإن السياسة في شيكاغو مصممة من أجل التأكد من أن المواطن العادي لا يعرف ماذا يحدث بالفعل. والأمثلة على استخدام هذه الثقافة في السياسة الخارجية الأميركية في عهد أوباما كثيرة. فعلى سبيل المثال، لا يستطيع أحد الجزم بشأن ما تم التوصل إليه في قمة كوبنهاغن حول التغير المناخي، ولا ما انتهت إليه قمة منع التسلح النووي.

وقد وعد أوباما أن يجعل جهود إحياء عملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية على قمة أولوياته، لكن بعد عام من هذا الوعد لا يوجد أي ذكر للقضية في واشنطن.

كما بدأ أوباما في احتضان النخبة في حزب البعث في دمشق، معلنا أن هدفه هو تقليل اعتماد سورية على النظام الإيراني. ومع ذلك أدرك السوريون، على نحو سريع للغاية أنهم يتعاملون مع شخص يتودد بغير حماسة، فهو يريدهم ولا يريدهم في الوقت نفسه. كما أن نقص الحماسة لدى أوباما أدى إلى خسارة كبيرة للنفوذ الأميركي في العراق.

وفيما يتعلق بإيران، وعد أوباما بالحور، لكن انتهى الأمر بفرض جولة جديدة من العقوبات لا تقدم سوى أنصاف الحلول، حيث إنها لا تقتل العدو ولا تقنعه بأن يكون صديقا.

وتجلى هذا الفتور أيضا فيما يسمى قمتي مجموعة الثماني ومجموعة العشرين في كندا الأسبوع الماضي. بدأ أوباما بواحد من خطاباته المثيرة، التي تحدث فيها هذه المرة عن الحاجة إلى العودة السريعة إلى النمو الاقتصادي من خلال تطبيق النظرية الكينزية المتعلقة بخفض الإنفاق العام. وانتهى به الأمر بتلقي محاضرتين من المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل ورئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون حول خفض الإنفاق العام.

وفي السياسة الداخلية، لجأ أوباما أيضا إلى مزيج شيكاغو. لا أحد يعلم على نحو مؤكد ماذا يعني قانون إصلاح الرعاية الصحية الذي أقره الكونغرس في الحياة الفعلية. كما أن حزمة الإجراءات التي أعلن عنها أوباما لإصلاح وول ستريت جاءت أيضا متناقضة ومحيرة.

وماذا عن شركة «بريتيش بتروليوم» وتسرب النفط في خليج المكسيك؟ قام أوباما الشهر الماضي بابتزاز شركة «بريتيش بتروليوم» على طريقة شيكاغو مجبرا مسؤوليها على فتح حساب ضمان بقيمة 20 مليار دولار لدفع التعويضات حتى قبل أن تكتمل الصورة عن الحادث. هذا التعويض الضخم والهجوم المستمر من الرئيس أوباما على المسؤولين التنفيذيين لشركة «بريتيش بتروليوم» أدى إلى انخفاض قدره 40 في المائة في قيمة أسهم الشركة. وعلى الرغم من ذلك أخذ الرئيس الاتجاه المعاكس الأسبوع الماضي بإعلانه أنه يرغب في استمرار شركة «بريتيش بتروليوم».

تهدف سياسات أوباما إلى خداع اليسار، وإرباك اليمين، وجعل المواطن العادي يتساءل عما يحدث.

لكن دعونا نعد إلى الحرب في أفغانستان. من الممكن تحقيق النصر في هذه الحرب، بل ويجب تحقيقه. بيد أن هذا النصر لا يمكن أن يتحقق من خلال سياسة شيكاغو. تماما مثل الحب، تتطلب الحرب وجود التزام تام كي يتحقق النجاح. ويعد أوباما من الناحية الثقافية غير قادر على توفير هذا الالتزام.

وفي العام الماضي، كان الأميركيون الغاضبون يريدون انتخاب المناهض لسياسات بوش، وقد فعلوا. كان أسلوب بوش المبني على سياسة تكساس يعني أنه يميل دائما إلى دخول أي معركة بإصرار وعزيمة على تحقيق النصر. أطلق عليه معارضوه صفة راعي البقر، الذي يطلق النار أولا ثم بعد ذلك يطرح الأسئلة. إذا قبلنا الرسم الكاريكاتوري، ممن المكن أن نقول إن أوباما هو المخالف التام لبوش: فهو يطرح الكثير من الأسئلة أولا وفي النهاية لا يطلق النار على الإطلاق.