والأغلبية اليهودية الصامتة.. تتبرأ من مظالم الصهيونية

TT

من الممتع - عقلا ومعرفة - أن يتفاعل القراء مع الكاتب.. وهل يكتب الكاتب إلا للقراء؟.. ومن الممتع - عقلا ومعرفة - أن يتسامى الكاتب دوما بدرجات احترامه لعقول قرائه. فليس القراء مجموعة من السذج (وأغبى خطاب إعلامي هو الذي يخاطبهم على هذا الأساس). نعم ليس القراء مجموعة من السذج الذين يخاطبون بسطحية أو بفنون من الإيهام والاستغفال قوامها (الشطارة) واللعب اللفظي. بل القراء أناس محترمون مكرمون بكرامة الله لهم، وبما أودعهم عقولا يجب احترامها.. ثم إن (الكلمة) مسؤولية مرهوبة الجانب أمام الله الرقيب الحسيب جل ثناؤه الذي علم الإنسان البيان وحمله مسؤولية ما يقول ويكتب.. ومن مظاهر احترام القارئ: التصميم الدائم على تقديم المعلومة الصحيحة الموثقة، والاجتهاد المستمر في تقديم الرأي السديد.. نقول هذا تعقيبا على أسئلة محترمة ونابهة أثارها مقال الأسبوع الماضي (دعوة للتحالف الإنساني.. مع عقلاء اليهود وعدولهم).. وكنا نقدر أن نوعا من هذه الأسئلة سيطرح بعد قراءة المقال من حيث إن الطرح ربما اختلف مع ما هو مألوف وسائد في هذه القضية أو العلاقة.. ومن هذه الأسئلة:

1) كم هو عدد اليهود العقلاء العدول بالنسبة إلى كم اليهود الطغاة الظلمة المفسدين في الأرض.. وماذا عسى قلة ضئيلة أن تفعل في هذا المجال؟.. والجواب من زوايا ثلاث:

أ) إن القلة من المنصفين ينبغي احترامهم وتقديرهم لأن أصل التقدير أو معياره هو (نوع) مواقف الناس وسلوكياتهم.. برهان ذلك ما رواه الإمام مسلم في صحيحه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: «إن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم: عربهم وعجمهم إلا بقايا من أهل الكتاب».. والحديث يصوّر الحقبة التي سبقت بعثة خاتم النبيين.

ب) على أن اليهود العقلاء العدول ليسوا قلة كما يصورهم الإعلام الصهيوني والإعلام المتصهين المتأثر به، بل إن هذا النوع من اليهود كثرة كبيرة، تُعد بالملايين.. نعم هم معتم عليهم إعلاميا ولكنه تعتيم لا يلغي حقيقة أنهم كثرة، وهي كثرة تنتهز أي فرصة متاحة للتعبير عن نفسها وموقفها.. مثال ذلك منظمة (يهود التوراة الحقيقيون) في الولايات المتحدة الأميركية. فقد خاطب هؤلاء اليهود الكثر الرئيس الأميركي السابق جورج بوش الابن، ولفتوا انتباهه إلى أنهم (أغلبية صامتة).. ومما جاء في ذلك الخطاب: «نود أن نستلفت بكل احترام انتباهكم إلى أنه بالرغم من إدراككم بأن هناك العديد من اليهود الذين يدعمون ويؤيدون دولة إسرائيل، فإن الذي يحتمل ألا تكونوا قد سمعتم به هو وجود أغلبية صامتة من اليهود معارضة للصهيونية تظل وسائل الإعلام متجاهلة لها وهي أغلبية باقية على صمودها في الولاء لتعاليم حاخاماتها التي تقول: إن الفكر الصهيوني ينافي تماما ديانتنا اليهودية.. لذلك فإن الصهيونيين لا يمثلون الشعب اليهودي، ولذلك فإن أقوالهم وإعلاناتهم وأفعالهم لا تمثل الشعب اليهودي بأي حال من الأحوال.. إن أساس وجود الدولة الصهيونية ليس الديانة اليهودية، بل الفكر الصهيوني. ولذا فإننا نشعر بقلق شديد من أن الإشارة إليها على أنها دولة (يهودية) يعرض استقرار اليهود ورفاههم للخطر في العالم كله من خلال ربط اليهود واليهودية بأفعال الدولة الصهيونية..

التوقيع: الأغلبية الصامتة من اليهود الأميركيين..».

وللحصول على معلومات أوفى رجاء زيارة الموقع:

www.jewsagainstzionism.com

ج) في بريطانيا نشأت منظمة اسمها (الأصوات اليهودية المستقلة) أعلنت أن من أبرز أهدافها: النضال اليهودي ضد التأييد الأعمى للسياسات الإسرائيلية في بريطانيا. ولقد انضم إلى هذه المنظمة مئات من الرءوس المفكرة في النخبة اليهودية، منهم هارولد بنتر وهو أديب وكاتب مسرحي نال جائزة نوبل للآداب.. ومنهم المؤرخ الشهير إريك هوبسباوم الذي قال: «من المهم لغير اليهود أن يعرفوا أن هناك يهودا لا يوافقون على الإجماع (الشكلي) داخل الجماعة اليهودية على شعار أن اليهودي الطيب هو اليهودي الذي يؤيد إسرائيل».. وهذه نماذج - فحسب - من جماهير اليهود العقلاء العدول في العالم.. فلماذا يجب علينا أن نظل نجهل (الصحوة اليهودية العاقلة) في عالمنا هذا؟.. وهل من العقل في شيء أن نفرح بـ(إجماع) اليهود أجمعين على ما تفعله الصهيونية من ظلم وبغي وعدوان وفساد وإفساد في الأرض؟!

2) السؤال الثاني: كيف نوفق بين وجود يهود عقلاء عدول وبين نصوص دينية توحي بأنهم جميعا أهل شر وفساد؟.. والجواب هو: أن المنهج الأصلي في القرآن هو: اجتناب (التعميم) في الحكم على الناس: يهودا أو نصارى أو غيرهم. أولا: لأن القرآن كتاب عدالة مطلقة في النظر إلى الناس والحكم عليهم. ولذلك كان منهج القرآن هو (التبعيض) لا التعميم.. لنقرأ: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا».. والآية نزلت في اليهود بالذات، وهي آية تبعّض وتفرق وتميز بين صنفين من اليهود بكلمة (من): صنف أمين، وصنف خائن. يقول الشوكاني في تفسير هذه الآية: «ومعنى الآية أن أهل الكتاب فيهم الأمين الذي يؤدي أمانته وإن كانت كثيرة، وفيهم الخائن الذي لا يؤدي أمانته وإن كانت حقيرة، ومن كان أمينا في الكثير فهو في القليل أمين بالأولى، ومن كان خائنا في القليل فهو في الكثير خائن بالأولى».. ومما يدخل في سياق (التبعيض) واجتناب التعميم قوله تعالى: «وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».. وقوله عز وجل: «وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ».. ويُفهم من هذه الآيات أن فريقا منهم - لا كلهم - يحرفون كلام الله، ويكتمون الحق. ومما لا ريب فيه أن التعميم - ها هنا - معارضة صريحة لمنهج القرآن.. ويتوجب - في هذه النقطة - العلم بلسان العرب في فهم القرآن. فمن أساليب العربية التي تنزل بها القرآن: أن هناك جملا أو عبارات تخرج مخرج العموم على حين يراد بها (الخاص).. ومن ذلك ما جاء في القرآن: «وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ».. والمراد به طائفة من اليهود، لأنه ليس (كل) اليهود يقولون: عزيز ابن الله.. يقول القرطبي: «هذا لفظ خرج على العموم، ومعناه الخصوص، لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك. وهذا مثل قوله تعالى: «الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ». ولم يقل ذلك كل الناس».. مع أن لفظ (الناس) عام في الآية.

ولعلنا نجمل المفاهيم الأساسية في المقالين (هذا المقال وصنوه مقال الأسبوع الماضي) فيما يلي:

1) إن منهج القرآن في العدالة والدقة وتحري الحق والإنصاف يزيدنا إيمانا ويقينا بأن القرآن من عند الله سبحانه الذي لا يظلم الناس مثقال ذرة، وكأي من صاحب عقل وضمير اكتشف هذا المنهج فآمن وأسلم: قديما وحديثا.

2) إذا كان القتال في الإسلام لرد العدوان لا لـ«ذات الكفر» فإن الإدانة إنما تكون لليهود الظالمين فحسب.

3) ونحن ننوه بمواقف العقلاء اليهود العدول لا نغفل عن ظلم طغاة الصهيونية ولا نهادنه.

4) إن الدافع إلى هذا الطرح (الذي يبدو غريبا لدى الذين ارتاحوا إلى مسلمات غير موثقة دينيا وسياسيا وأخلاقيا).. ليس الكدح من أجل مصالحنا وقضايانا فحسب، بل الدافع كذلك هو: الإشفاق على مصائر اليهود المسالمين غير المعتدين في العالم، أولئك الذين جرت عليهم الصهيونية البلاء والكرب والشقوة.. مثلا: لقد نشرت المخابرات المركزية الأميركية تقريرا سريا - منذ قريب - شكك في بقاء الكيان الصهيوني بعد عشرين عاما، وتوقع التقرير أن تحصل هجرة مضادة من إسرائيل: يهاجر مليون ونصف المليون إسرائيلي إلى روسيا وبعض دول أوروبا، ونصف مليون يهاجر إلى الولايات المتحدة.. والخلاصة أن الصهيونية لا تؤذينا فقط، وإنما تؤذي اليهود المسالمين في العالم.