عادوا إلى حيلهم القديمة مرة أخرى

TT

انتهت الحرب الباردة لكن قصص الجاسوسية، وكثيرا من الأشياء الأخرى، لم تنته. فلا تزال هناك بعض الإثارة، لكنها، بطبيعة الحال، لم تعد كما كانت من قبل، فتحول جيمس بوند إلى بطل مغامرات، وتحول جون لي كار إلى كاتب بريطاني آخر يكره جورج بوش، وعندما سقطت الشيوعية توقف العمل بالخطابات الميتة والحبر السري والميكروفيلم، بل إنها اختفت من القصص أيضا.

بيد أن هذه الأمور يبدو أنها لم تنته من الواقع العملي أيضا. فخلال الأسبوع اعتقل مكتب المباحث الفيدرالي 10 أشخاص (11 بإضافة الشخص الذي اعتقل في قبرص) بتهمة العمالة للحكومة الروسية. وكما هو الحال في شخصية كيفن كوستنر في فيلم «لا سبيل للخروج» فإن الكثير من المعتقلين هم من الروس (كما أكدت على ذلك الحكومة الروسية) الذين عاشوا في الولايات المتحدة لسنوات عدة وحصلوا على مدى السنوات التالية على هويات أميركية. وعلى الرغم من التواصل المنتظم مع قادتهم من الروس - مركز موسكو - فإنهم حاصلون على شهادات جامعية ووظائف أميركية، وأنجبوا أطفالا حصلوا على الجنسية الأميركية، كما أن لديهم أصدقاء أميركيين. ربما يكون أحد هؤلاء الأصدقاء آلان باتريكوف، جامع الأموال الديمقراطي وصديق عائلة كلينتون. وكانت لباتريكوف محادثات متفرقة مع خبيرة الضرائب سنيثيا ميرفي التي ناقش معها الضرائب. وبعد واحدة من هذه المحادثات أخبرت ميرفي، خريجة جامعة كولومبيا للأعمال، المنتشية بما حققته مركز موسكو بأنها التقت بجامع أموال للحملات الانتخابية بارز في نيويورك. وأبدى مركز موسكو سعادة هو الآخر وأخبرها، بحسب أوراق التحقيق الفيدرالية، بالإنصات بشكل جيد إلى ملاحظاته بشأن السياسة الخارجية الأميركية، إلى جانب الإشاعات التي تثار في المطبخ السياسي في البيت الأبيض.

يقودنا ذلك إلى التساؤل الرئيسي في القصة: ما هو السبب الذي يدفع الحكومة الروسية إلى إنفاق السنوات الطوال وملايين الدولارات على تعليم ورعاية وتوطين جاسوس ربما يتمكن في يوم ما من جمع بعض الإشاعات، وهو جامع تمويلات ديمقراطي وصديق لعائلة كلينتون؟ لا بد أن هناك الآلاف من الأفراد الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف في نيويورك وحدها، وأراهن على أن أحدهم لا يعرف معلومة أكثر من تلك التي تنشر على مواقع الإنترنت. الإشاعات ونميمة البيت الأبيض وأخبار السياسة الخارجية، تلك هي الأمور التي تجدها على الإنترنت على مواقع «واشنطن بوست» ومعهد بروكينغز والكثير من المؤسسات الأخرى التي يمكن لموسكو تصفحها عبر الإنترنت.

التفسيرات التي قدمت بشأن هؤلاء العملاء هي أنهم ربما يكونون خلايا نائمة يمكن الاستفادة منها فيما بعد. وربما يكونون فريق كشافة موهوبا للتعرف على جواسيس ذوي قدرات كبيرة، أو ربما كانوا عملاء يقومون بنقل المعلومات والأموال نيابة عن الشخصيات البارزة في روسيا. لكن لي وجهة نظر مختلفة بعض الشيء، وهي أن التعليمات التي أصدرتها القيادة الروسية تعكس مدى العقلية التي تعمل بها النخبة الروسية الحالية التي كان غالبية أفرادها عملاء سابقين في جهاز الاستخبارات السوفياتي السابق الـ«كي جي بي» ولم تكن تعتقد الاستخبارات السوفياتية أن تكون الانتخابات في يوم ما حرة نزيهة - فدائما ما كانت توصف إقامة ديمقراطية برجوازية في الاتحاد السوفياتي بأنها نوع من الخيال - وكذلك جزء من الطبقة الحاكمة في روسيا في الوقت الحالي. وفي السابق أيضا لم تكن الاستخبارات السوفياتية تؤمن بحرية تداول المعلومات أيضا - ما يسمى بالصحافة الحرة التي كان يطلق عليها دائما أداة في يد الانتهازيين الرأسماليين - وكذلك لم تكن طائفة من الطبقة الحاكمة في الوقت الحالي في روسيا.

في المقابل فإن المعلومات السرية في رأي جهاز الـ«كي جي بي» أفضل أو على الأقل أكثر موثوقية من أي شيء يمكن أن تعلن عنه. ومن ثم كانت سعادة مركز موسكو عندما بعث لها عميلها تقريرا حول سوق الذهب - على الرغم من أن هذه التحليلات متاحة في صحيفة «وول ستريت جورنال» - ومن ثم كانت حماسة موسكو للاتصال بالمؤسسات البحثية، على الرغم من أن المؤسسات البحثية الأميركية تتنافس على نشر أفضل معلوماتها بصورة أكثر سرعة وأكثر جودة. ثم جاءت مطالبة مركز موسكو بعقد صداقات مع أساتذة جامعة هارفارد، كما لو أن أي أستاذ في هارفارد سيحجم عن مشاركة وجهات نظره مع دبلوماسي روسي يطرق بابه.

من الواضح أن هؤلاء العملاء أنفسهم يتمتعون بمعرفة أفضل من مركز موسكو، ففي محادثة اعترضها عملاء مكتب التحقيقات الفيدرالي شكا أحد المشتبه بهم من أن موسكو ترغب في معرفة مصادر أسماء الأفراد الذين حصلوا منهم على هذه المعلومات، وقال له زميله «ضع اسم أي سياسي أميركي فسوف يصدق مركز موسكو أي شيء. في هذه الأثناء حاولت ميرفي إقناع قادتها في موسكو بشراء منزل في ضاحية نيوجيرسي، محتجة بأنه في شريحة أصحاب المنازل يجب عليها هي وشريك حياتها الحصول على منزل لمواكبة الجيران (ولماذا تشتري منزلا إذا كان مركز موسكو سيدفع مقابل منزل لك؟).

النسخة الأكثر قتامة في القصة قد تظهر بطبيعة الحال فيما بعد، فهذا ما يجري في العالم من التجسس، لكنني في الوقت نفسه أوصي بقراءة وثائق المحكمة، فأجهزة البث الإذاعي السرية، والتحويلات المصرفية، والحبر السري ربما تساعد في سد فجوة الثقافة التي كانت تقوم بها قصص التجسس إبان الحرب الباردة.

* خدمة «واشنطن بوست»