صياغة إسرائيلية عنصرية للحدث الأميركي

TT

العرب، كما كل انسان في العالم مطالب بأن يكون له موقف محدد من ذلك الذي جرى في نيويورك وواشنطن صباح 11 سبتمبر (ايلول) الماضي. الموقف المطلوب هو بالدرجة الأولى موقف اخلاقي ضد كل من يبيح لنفسه ان يقتل مئات من الناس الابرياء، لمجرد انهم شاركوه صدفة في رحلة الانتحار التي قرر القيام بها، وهو ايضا موقف اخلاقي ضد كل من يختار اهدافا رمزية للتدمير، من دون ان يبالي بالبشر الابرياء الذين سيموتون داخل ذلك الهدف «الرمز» ولا يمكن لهذا الموقف الاخلاقي إلا ان ينطوي على الادانة، وبعد الادانة لا بد لهذا الموقف الاخلاقي من ان يتوجه للقضاء على هذا المرض «النضالي» باجتثاث اسبابه.

وحين نطالب انفسنا بموقف اخلاقي ضد الجريمة التي وقعت، فمن الواجب ان نطالب الأمة الاميركية المطلوبة برد اخلاقي ايضا، يتوجه الى معالجة المشكلة لا الى ايجاد مشكلة جديدة اكبر، ذلك ان الخشية مبررة هنا من بروز عقلية الانتقام، بمعنى الحرب والقتل والتدمير واثارة نزاعات حضارية ودينية وعرقية، تضع العالم كله في أتون حرب شديدة لا تنتهي بل تكون قادرة على توليد جريمة ترد على كل جريمة.

لقد قيل فورا، وبعد ساعات من الحدث الفريد من نوعه ان الأمر يحتاج من الولايات المتحدة الى سياسة جديدة لا الى حرب جديدة، ولكن سحب الدخان المنبعثة من المباني المنهارة وانين الجرحى المنبعث من تحت الانقاض، والاحساس الاميركي بالكرامة المجروحة، كل ذلك طغى على هذا الصوت وحوله الى نداء باهت، ولكن مع مضي كل ساعة جديدة على الحادث اثبت هذا الرأي انه لم يمت، وأخذ يعبر عن نفسه بأشكال مختلفة.

الولايات المتحدة قالت انها تسعى الى انشاء حلف دولي لمقاومة الارهاب. وقال الرئيس جورج بوش منتشيا برعب القوة التي يملكها انه «سيقود العالم في هذه الحرب وسينتصر». لم يحدد بوش هدف هذه الحرب ولم يحدد وسائلها، ولكنه انتزع من برلمانه ميزانية بأربعين مليار دولار مع تفويض له بقرار الحرب.

شركاء الولايات المتحدة الآخرون في اوروبا، اشاروا وباللغة التي تناسب حفل العزاء الاميركي الكبير الى اهمية ألا ينغلق الذهن على التفكير في الحرب، وان ينفتح على ضرورة التفكير في سياسة عالمية جديدة.

نظراء الولايات المتحدة في روسيا والصين شددوا وهم يقدمون الدعم والمساندة على ان يتم اي توجه لانشاء «الحلف الدولي»، ومن داخل مجلس الأمن الدولي وبقرار منه، وجل هدفهم هنا هو ان يبقى العقل والمنطق سائدين، وألا تخلو الساحة لرغبات الانتقام وان يبقى القانون الدولي سائدا، وألا تخلو الساحة لمن شاء كي يفعل ما يشاء.

والذين سألتهم الولايات المتحدة بان يكونوا شركاء معها في الحلف المنشود من العرب والمسلمين ودول آسيا وافريقيا، سألوا وكرروا السؤال عن الأهداف المقصودة وعن الوسائل التي ستستخدم.

وقد لا يكون الاميركي المكلوم، الاميركي المطعون بكرامته مستعدا نفسيا لمثل هذه الاسئلة، ولكن مهمة القادة ان يحاولوا تجاوز الغرائز الانسانية، من اجل قرار حكيم يبلور القدرة على معالجة المشاكل العالمية الكبرى، متجاوزين الرغبة في ابراز العضلات او في سماع دوي السلاح. ومع كل يوم يمضي ومع كل لحظة يركد فيها غبار المباني المنهارة، فان هذه الاسئلة ستكبر وتكبر، وتصبح هي اسئلة العالم كله.

ومن المؤكد ان العرب شعوبا ودولا وحكاما، سيشاركون في الجدل الصاخب لهذه الاسئلة، وسيكون عليهم اتخاذ قرارات صعبة تخص الوضع العالمي، إلا ان العرب شعوبا ودولا وحكاما، عليهم ألا ينسوا للحظة واحدة ان واجبهم في الدرجة الأولى هو معالجة الجانب الذي يخصهم من هذا الارهاب العالمي، وهو الجانب الذي يتعلق باسرائيل. واذا كنا لا نريد هنا ان نكرر الجمل التقليدية عن الارهاب الاسرائيلي، وعن القتل الاسرائيلي المنظم للشعب الفلسطيني، وعن التهديد الذي تشكله اسرائيل لكل من يجاورها من العرب، فان من واجبنا ان نقف بدقة أمام التعامل الاسرائيلي مع الحدث الاميركي، وان نتنبه الى مخاطره الكبيرة وان نركز الجهد على مقاومة هذه المخاطر، فمنذ اللحظة الأولى للحدث، برزت في اسرائيل تيارات قوية، اطلقت تفسيرات عنصرية للحدث الاميركي، وجعلت النضال الفلسطيني جزءا من تلك التفسيرات العنصرية التي يجب ان تدرس وتواجه بقوة واعطت هذه التيارات دورا لاسرائيل في الحلف الدولي المنشود، يجعل منها أداة لحرب مستمرة ضد العرب والمسلمين. ويكفي ان نختار مقالات يوم واحد من الصحافة الاسرائيلية، لنضع اليد على هذا النمط الخطر من التفكير الاسرائيلي، والذي يمكن لشخص من نوع ارييل شارون ان يتبناه وان يذهب مع تطبيقه حتى النهاية. ونحن لا نقصد هنا التحليلات التي قالت (وهي صحيحة)، ان اسرائيل تستغل انشغال العالم بالحدث الاميركي لكي تزيد من قوة بطشها ضد الفلسطينيين، انما نقصد الاشارة الى ما هو أهم وأخطر، فهذه التيارات الاسرائيلية تتحدث عن حرب حضارية بدأت بين تقدم اوروبا وتخلف العالم الثالث، واسرائيل هنا هي بالطبع جزء من اوروبا. وهي تتحدث ايضا عن حرب جديدة فتحت بين الثقافة اليهودية ـ المسيحية ضد ثقافة الاسلام. وفي ما يلي عينات من هذه المواقف:

يقول الكاتب الاسرائيلي تسفي برئيل: يسود الميل تحت تأثير الهجمة الفوري، الى تمترس وتعمق الحرب الحضارية، حيث يقف الغرب في مواجهة العالم الثالث. وتقف الثقافة اليهودية ـ المسيحية في مواجهة الاسلام. ويقول اذا نفذت العملية من قبل طرف إسلامي او عربي، فانها ستفهم على الفور كعملية نفذت باسم حضارة وثقافة بأكملها. ويقول حتى لو كان الأمر يتعلق فقط برجل اسمه اسامة بن لادن... فلن يكون بالامكان... تقليص الحرب وحصرها بين دولة عظمى ورجل واحد... مثل هذه العملية تلزم في الواقع خوض حرب ثقافية... الحرب بين الأشرار المطلقين والأخيار المطلقين. «هآرتس» (13/9/2001).

ويقول الكاتب الاسرائيلي إريك يخر: «إن الإسلام انشأ شبحاً مخيفاً أدخله في آلاف المساجد... ان معظم الأعمال العنيفة التي وقعت في السنوات الأخيرة في انحاء العالم، كانت تسير في اتجاه واحد من المنطقة الاسلامية الى المنطقة اليهودية ـ المسيحية». ويقول «ان الحلم الإسلامي الراهن... ما زال يتحدث ليل نهار عن العنف... الذي تحول الى هدف بحد ذاته».

ويقول ان العنف ما يزال يعتبر وسيلة شرعية في الوجود الحيوي للدين الذي نقش على رايته (!!)، هدف تحويل الكرة الأرضية الى أمة واحدة تتخذ من مكة قبلة لها، هذه هي الحقيقة التي يرضعها كل طفل في غزة وكل طفل في كابل من حليب الأمهات. ويقول إن التجسيد الوحشي لهذه الحقيقة يكلف العالم الغربي اليوم ثمنا باهظا ومؤلما. «معاريف» (13/9/2001).

ويقول الكاتب الاسرائيلي ياعيل ياز ـ ميلميد: «في بداية الألفية الثالثة يشكل الاسلام المتطرف، هذا الذي يخرج الانتحاريون من رحمه، الخطر رقم واحد على العالم». ويقول: «ثمة هنا حرب بين ثقافتين عالميتين لا يوجد بينهما اي قاسم مشترك. ثقافة العالم الغربي أمام ثقافة القواعد الأخلاقية للأصوليين الاسلاميين». «معاريف» (13/9/2001).

ومن هذا المنظور الشامل الذي يبشر بحرب حضارية ضد العرب والمسلمين والعالم الثالث، والذي يبشر ايضا بحرب دينية تخوضها اليهودية ـ المسيحية ضد الاسلام، وتكون اسرائيل جزءا منها ينتقل الكتاب الاسرائيليون الى منظور محدد يتعلق بالنضال الفلسطيني من اجل الاستقلال، فيدرجونه ضمن هذا الارهاب العالمي الذي يجب ان يقاوم.

يقول الكاتب الاسرائيلي اليكس فيشمان إن عرفات يقوم بحركات تملق للأميركيين من خلال التبرع بالدم، ولكنه يرفض استيعاب الاستراتيجية الاميركية البسيطة، اما ان تكون معي او ان تكون ضدي. ويقول: لن نوافق على ارهاب محلي. كل عمليات الارهاب المحلية والاقليمية، هي من الآن فصاعدا موضوع للعلاج الدولي. ان المنظمات الفلسطينية المتطرفة ستقود الشعب الفلسطيني نحو الضياع. «يديعوت احرونوت» (13/9/2001).

ويخرج الكاتب الاسرائيلي زئيف شيف عن المظهر الموضوعي والعقلاني الذي كان يحاول الظهور به، فيكتب قائلا: هل يمكن ان يحدث هذا لنا؟ من المحظر علينا بأي شكل من الاشكال، ان نقول لأنفسنا ان هذا لا يمكن ان يحدث لنا. ويقول: اسرائيل ملزمة بنزع القفازات في مكافحة الانتحاريين، لأنها حرب ضارية لا هوادة فيها. ويقول هذه الحرب يجب ان تشمل المنظرين، ودعاة تجنيد الشهداء، وهي ضرورية حتى اذا أدت الى المجابهة مع مجموعات وقادة في اوساط فلسطينيي 1948. «هآرتس» (13/9/2001).

لقد أطل هذا النوع من التفكير الاسرائيلي مستغلا الحدث الاميركي، وخطورته انه فكر جاهز للتنفيذ من خلال رئيس وزراء حاكم من نوع آرييل شارون، ومن خلال تحالف استراتيجي قائم بشكل دائم بين الولايات المتحدة واسرائيل. وتلعب اسرائيل داخل هذا التحالف دور المحرض الدائم على ضرب لبنان وسورية والعراق وايران، وهو دور لا يمكن للعرب ان يتجاهلوه، ليس دفاعا عن القضية الفلسطينية فقط، بل دفاع عن انفسهم ايضا، حتى لا يتم زجهم في أتون حرب دولية تتناقض مع كل مصالحهم، وتفشل في تحقيق مصالح الولايات المتحدة ولا تحقق إلا مصالح اسرائيل.

ومن الضروري ان نلاحظ هنا، ان اسرائيليين آخرين يتنبهون الى خطورة هذا النوع من التفكير السياسي الاسرائيلي ويحذرون من الانسياق وراءه، ولا يتورعون عن وصفه بالفكر العنصري. فهذا هو الكاتب الاسرائيلي عاموس عوز يقول: سهل ومغر جدا الانزلاق وراء كل ضروب الكليشهات العنصرية عن «العقلية الاسلامية»، و«الطابع العرقي»، وباقي التفاهات من هذا النوع. ويقول «لا يجوز لأي شخص مستقيم ان ينسى بأن الأغلبية الساحقة من العرب والمسلمين في العالم، ليسوا شركاء في الجريمة ولا يشاركون في الشماتة. «يديعوت احرونوت» (13/9/2001).

ويقول الكاتب الاسرائيلي ميرون بنفينيسني: «تحدث السياسيون عاليا عن تحالف دولي لانقاذ الحضارة الغربية، وهؤلاء تجاهلوا ان اعمال اسرائيل في الضفة الغربية ليست كلها وفق مقاييس الحضارة الغربية، وليس كل عمل فلسطيني عنيف يعتبر في نظر العالم المتحضر عملا ارهابيا يشبه العنف الذي تم في نيويورك وواشنطن». «هآرتس» (13/9/2001).

لقد نظم الفلسطينيون حملة شاملة من التبرع بالدم الى الاحتفالات داخل المدارس، تضامنا مع مأساة المدنيين الاميركيين، ولكن اسرائيل رفضت ان ترى في ذلك كله سوى «تملق عرفاتي»، وانشغلت بشن حملة اعلامية تروج لبضعة شباب مراهقين عبروا عن فرح وشماتة بما جرى في نيويورك وواشنطن. واطلق الاسرائيليون شعارا ترويجيا يقول «لقد رقصوا فوق الأسطح»، وكان هذا الشعار من الفجاجة بحيث قال عنه بنفينيسني: يا ليت المأساة لا تستغل كوسيلة لإزالة العوائق الأخيرة المتبقية «لمكافحة العنف الفلسطيني»، بالذريعة القديمة القائلة «لقد رقصوا فوق الأسطح».