حبل الكذب القصير

TT

صحيح أن حبل الكذب قصير، بل وأقصر مما نتصور، ولكي أثبت لكم ذلك بالدليل القاطع فلا بد أن أروي لكم ما أقدمت عليه أنا من تصرف، ففي أحد الأيام أتى أحد المعارف إلى منزلي من دون سابق ميعاد، والمشكلة أن العامل المنزلي لدي فتح له الباب بكل بساطة وأدخله إلى صالون الجلوس بكل كرم وغباء، وبعد أن سمعت جرس الباب يدق نزلت من الطابق العلوي لأستعلم عن الشخص القادم، وقبل أن أدخل الصالون همس العامل في أذني يخبرني عن اسم الضيف، وبما أنني لا أستسيغ ولا أستلطف ذلك الرجل، فقد همست في أذن العامل طالبا منه أن يذهب للضيف ويقول له إنني غير موجود، فقد سافرت للطائف قبل يومين. وما إن ذهب له حتى استغللتها أنا فرصة ودخلت بسرعة إلى حمام الضيوف وقبعت فيه من دون أي حركة إلى أن يغادر الرجل.

اقتنع الزائر بكلام العامل، غير أن المصيبة التي لم تكن تخطر على البال، أنه كان (محصورا) على الآخر، فطلب من العامل أن يدله على الحمام ليقضي حاجته، والكارثة المركبة أنني أيضا نسيت أن أقفل باب الحمام بالمفتاح، وسمعت أصوات خطواتهما تقترب، واعتقدت أنهما متجهان إلى الباب الخارجي، وفجأة وإذا بباب الحمام ينفتح وصوت العامل يقول للضيف: «تفضل طال عمرك».

وإذا وجهي بوجهه، أو بمعنى أصح خشمي بخشمه لا يفصل بينهما إلا أقل من خمسة سنتيمترات.

وفي أقل من ثانية واحدة تبادلنا المراكز من دون سلام أو كلام، هو دخل الحمام وأغلق على نفسه الباب، وأنا صعدت ركضا من حيث أتيت إلى الطابق الأعلى، ومن يومها إلى الآن لم يعد يتصل بي، كما أنني من شدة خجلي لم أعتذر له عن كذبتي التي كان حبلها أقصر من القصير، وحتى لو أردت أن أعتذر فماذا أقول؟! فعلا ماذا أقول؟!

لكن عزائي أنني لست بالكذاب الوحيد في هذا العالم، فقد سبقني لمثل هذا الموقف رجل كبير الشأن عندما ذهب إلى بيروت في أوائل الخمسينات الميلادية واستأجر هناك منزلا، وحيث إنه لم ينل قسطا وافرا من التعليم، فقد اتفق مع أستاذ هناك أن يعطيه كل يوم درسا خصوصيا لمدة ساعة.

وبعد رابع يوم بدأ يضيق ذرعا بالدروس الخصوصية، وبدلا من أن يصرف الأستاذ ويلغي الاتفاق معه، أصبح كلما سمع أن الأستاذ قد وصل يذهب سريعا ويختبئ في الحمام أو تحت بيت الدرج، ويوعز لمستخدميه أن يقولوا له إنه غير موجود، ولا يخرج من مكانه إلا بعد أن يتأكد أن الأستاذ قد يئس وذهب.

واستمر على هذه الحال عدة أيام، إلى أن (كشفه) الأستاذ يوما عندما شاهده وهو مقرفص ومختبئ تحت بيت الدرج، فتعجب الأستاذ من تصرفه الصبياني ذاك، وعرف أن (ما في العباة رجّال) مثلما يقولون.

وقال له بكل صراحة: «لو أنك كنت طفلا صغيرا لضربتك على يدك لقاء حركاتك هذه، لكن ماذا أتصرف معك وأنت أكبر مني؟! ثم إنك يا أخي لست مجبرا أن تأتي بي وتدفع لي النقود على لا شيء».

فخرج ولم يعد، ولا يزال ذلك الرجل صاحب الشأن الكبير يعيش بيننا، وهو إلى وقتنا الحاضر بالكاد يستطيع أن يفك الحرف، وإذا أراد أن يكتب رسالة يستدعي من يكتبها له.

المشكلة أنني بعد اعترافي هذا أخشى ألا يصدقني أحد بعد اليوم، مع أنني والله أتحلى بصدق لا بأس به في بعض الأحيان.

[email protected]