هل سيكون هناك متلازمة أفغانستان؟

TT

في جميع الحروب التي خاضتها أميركا، نقوم بصياغة قصص تساعدنا على تفسير النتائج والتعايش معها. ففي أعقاب حرب فيتنام، على سبيل المثال، تبلور توافق في الآراء يقول إن المدنيين في واشنطن أفسدوا الصراع عن طريق توجيه الجنرالات بصورة مفصلة. وبعد حرب الخليج العربي عام 1991، وضعت إدارة بوش الأب قصة أخرى، تقول إن البلاد حققت النصر لأنه تم إعطاء الجيش مهمة واضحة، وموارد وفيرة، والحرية لتنفيذ مهمته على أكمل وجه. وقال بوش الأب «لقد تخلصنا من متلازمة فيتنام إلى الأبد».

ومن دون شك سيلعب صعود وسقوط الجنرال ستانلي إيه ماكريستال - الذي عزله الرئيس باراك أوباما من منصبه مؤخرا كقائد للحرب المتعثرة التي تقودها الولايات المتحدة في أفغانستان عقب مقال نُشر في إحدى المجلات يشير إلى أن الجنرال وكبار المساعدين لديه يسخرون من الرئيس ونائبه وغيرهما من القادة المدنيين والحلفاء الأجانب - دورا رئيسيا في القصص التي ستخبرنا في نهاية المطاف بشأن الصراع في أفغانستان.

وقصص الحروب تلك ليست فقط قصصا أخلاقية تُعاد روايتها في كتب التاريخ في المدارس الثانوية أو الأفلام التلفزيونية الوثائقية. لكنها تستطيع تشكيل الطريقة التي تحارب بها الولايات المتحدة أعداءها في المستقبل، والطريقة التي تحسم بها النزاعات بشأن الحرب في الداخل. وتهدد قصة ماكريستال، بما تمثله من محاكاة للاتهامات الشديدة المتبادلة بين المدنيين والعسكريين أثناء فترة حرب فيتنام، بفعل الشيء نفسه.

وفي فيتنام، مثلما كان الحال في حرب الخليج، لم تكن القصص القديمة، على أقل تقدير، مكتملة تماما. ففي الحقيقة، لم يوجَّه المدنيون بصورة مفصلة معظم الحرب في فيتنام. أعاق الرئيس ليندون جونسون قصف أهداف في شمال فيتنام، لسبب معقول وهو أنه لم يكن يريد جلب الصين وروسيا إلى صراع أوسع نطاقا. وكانت الحملة في جنوب فيتنام، بما فيها القصف واسع النطاق ومهمات البحث والتدمير، نتاج العقلية التقليدية للجيش، التي فهمت أن الحرب تكمن بصورة رئيسية في قتل العدو، وليس في محاربة التمرد. وعلى نحو مماثل، فإن أصدق قصة في حرب الخليج تؤكد على فشل الولايات المتحدة في تحطيم قوة صدام حسين، وهو ما مهد الطريق لسنوات من الحصار والقصف العشوائي، مما قاد إلى مواجهة ثانية وحاسمة بعد أكثر من عقد من الزمان.

ومع أن قصص الحرب غير صحيحة ومنمقة ومشوهة، فإن لها عواقب حقيقية. لقد ساعدت على تفسير الصعوبات التي واجهها الرئيس الأسبق بيل كلينتون والتابعون له في الجيش بشأن قضية ما إذا كان سيسمح للمثليين والمثليات بصورة علنية بالخدمة في القوات المسلحة أم لا، والصعوبات التي واجهها في الصراعات في صربيا وكوسوفو. كما أنها تساعد على تفسير الانتقاد الذي واجهه وزير الدفاع دونالد رامسفيلد بشأن فحصه المكثف لخطة غزو العراق عام 2003، واستعداد الجنرالات المتقاعدين للتنديد به علنا عندما انحرفت الحرب عن مسارها. لقد ضللت هذه القصص جيلا من ضباط الجيش وجعلتهم يفكرون في أنه كانت هناك وصفة بسيطة للنصر - تعطينا كل شيء نطلبه، تاريخ البدء وخط النهاية - وأعطت السياسيين المنافقين والجاهلين عسكريا حججا للسخرية من خصومهم. وستتمخض عن الحروب التي تخوضها الولايات المتحدة في الفترة الراهنة القصص الخاصة بها.

وبصورة رئيسية، يتم تصوير النجاح الهش وغير المستقر في العراق من حيث «زيادة» عدد القوات، ونشر خمس فرق إضافية من المقاتلين، ووضع استراتيجية جديدة وتعيين قائد عسكري جديد لقيادة الحرب عام 2007. لكن لا يوجد تقرير واحد يستطيع تفسير ما أدى إلى انقلاب هذا الوضع. لا شك في أن الفرق الخمس التي تم نشرها كانت مهمة. وكان الفريق الجديد، مع الجنرال ديفيد بترايوس والسفير ريان كروكر، أكثر أهمية. كما كان التقليل من أهمية التمرد السني عن طريق المخاوف وعمليات القتل المستهدفة مهمًّا كذلك. لكن لم تتم رواية الجانب العراقي من القصة بصورة كبيرة: كان نمو قوات الأمن العراقية في الحجم والقدرات، واستعداد قبائل صحوة الأنبار لمعارضة تنظيم القاعدة، وإدراك السنة في العراق أنهم فقدوا السلطة للأبد، والنضوج البطيء للنظام السياسي، عناصر مهمة أيضا.

ثم إن الحرب الثانية للولايات المتحدة في العراق من المحتمل ألا تكون متوافقة مع مبدأ التعديل البسيط في الحرب الأولى، وهذا أمر جيد. بيد أن أفغانستان قد تكون مختلفة. بدأت ثلاث قصص مثيرة للقلق على ما يبدو في تفسير ما قد يكون نهاية صعبة لصراع وصفه الديمقراطيون والجمهوريون على حد سواء ذات مرة بأنه حرب الضرورة.

والقصة الأولى هي أن تورط الولايات المتحدة في أفغانستان محكوم عليه بالفشل، لأن هذا البلد هو «مقبرة الإمبراطوريات». ويعكس ذلك نظرة جوهرية جيوسياسية؛ وتنتج هذه النظرة مزيدا من الكلاشيهات المدوية. وهذه هي العقيدة نفسها التي أكدت في تسعينات القرن الماضي على أن شعوب البلقان كانت دوما تؤوي رغبات جامحة للإبادة الجماعية، والنوع نفسه من الحكمة الزائفة التي أشارت، في عصر سابق، إلى أنه لا يمكن العثور على الألمان سوى على مقربة من الفرد.

وتتجاهل قصة «المقبرة» بعض الحقائق البارزة: ظل السكان الأفغان داعمين للولايات المتحدة وحلفائها؛ وأن أفغانستان، التي تعد بعيدة كل البعد عن أن تكون فوضى تعج بأمراء الحرب بالمفهوم الشائع، كانت لديها فترات من الاستقرار والرخاء النسبي وحكومة ضعيفة، لكن ليست تافهة؛ وأن مواقف شعبها قد تكون تغيرت نتيجة لـ30 عاما من الحروب المزمنة.

وستكون القصة المرجحة لحرب أفغانستان، والتي تجلت بالفعل في الكتاب الأخير للكاتب جوناثان ألتر «الوعد»، واحدة من التوترات بين المدنيين والعسكريين في واشنطن. وورد في هذه القصة، التي نشرها مسؤولون بارزون في إدارة أوباما، أن الرئيس الجديد ورث حربا تعاني من نقص الموارد وسوء الإدارة إلى حد كبير، وشرع في فعل الصواب: لقد درس المشكلة وحاول العثور على وسيلة للنصر من دون التزام مدمر لا نهاية له. لقد وجد نفسه تقريبا محاصرا من قبل قيادة عسكرية طالبت، كما يفعل الجنرالات دوما، بموارد جديدة وضخمة. وفي رواية ألتر، أرغم أوباما بدهاء هذه القيادة على إعطاء وعد بالنجاح في تاريخ محدد؛ وإذا أخفقوا في تحقيق النصر، فسيكون السبب في ذلك أنهم كذبوا عليه.

والبديل لذلك هو قصة خيانة مدنية للجيش. وفي هذه الرواية، بما تحمله من أصداء لحرب فيتنام، بذل جنود على درجة عالية من الاحتراف قصارى جهدهم مع وسائل غير كافية. وفعل هؤلاء الجنود، الذين واجهوا انتقادات من جانب الكبير والصغير في واشنطن وتخلت عنهم وزارة الخارجية، كل ما بوسعهم لشن حرب لم تكن لديهم الأدوات ولا الدعم الكافيان لها. وعندما حاولوا إخبار قادتهم المدنيين بشأن ما ستحتاجه هذه المهمة في الحقيقة، واجهوا السياسة الداخلية التي أمرت بانسحاب متسرع من معركة أراد فيها المدنيون بصورة غير مسؤولة تحقيق الغايات، لكن منعوا عنهم الوسائل.

ولا تناسب حلقة ماكريستال أيا من القصتين، ومن الممكن أن تجعل الاثنتين أكثر خطورة. ومن الممكن روايتها باعتبارها قصة «جنرال هارب»، كما وصفه التقرير المنشور في مجلة «رولينغ ستون»، يزدري السلطة المدنية والقائد العام نفسه. كما يمكن روايتها باعتبارها قصة بطل منهك يفعل كل ما بوسعه في وضع أنشئ ليكون مستحيلا، في ظل حرص قادة مدنيين غير بارعين والرئيس على إلقاء اللوم على القوات.

وإذا أصبحت هذه الاستنتاجات راسخة في أذهان القادة المستقبليين للدولة، سواء داخل الجيش أو خارجه، لكانت الحكومة الأميركية جلبت لنفسها نفس أنواع سوء الحظ الذي عانته في الحروب التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) عام 2001. سيتراجع الديمقراطيون ويفقدون الثقة في الجيش؛ وسينصب الجمهوريون أنفسهم في وضع المدافعين عنه. وقد ينتهي الحال بالجنود للنظر إلى أنفسهم على أنهم شهداء أو ضحايا، بدلا من محترفين يواجهون سجلا مختلطا يجب أن يفكروا فيه مليا، للقيام بأداء أفضل في المرة المقبلة.. لأنه ستكون هناك مرة مقبلة. وستكون على نحو شبه مؤكد نوعا مختلفا للغاية من الحروب، لكن ستحدث التوترات والأزمات والانتكاسات نفسها، التي تحدث في كل حرب. وفي محاولة للقيام بما فعله دوما أفضل القوات - دارسة الماضي من أجل تعلم الدروس منه - سنبذل الجهود الكبيرة من أجل دفع أنفسنا إلى الأمام والتفكير في تاريخنا الحديث كما لو كان حدث قبل عقود من الزمن.

والواقع الكامن لحرب أفغانستان معقد، كما كانت الحرب في فيتنام والحرب الأولى في العراق. كان بعض القادة العسكريين في أفغانستان متميزين، والآخرون لم يكونوا كذلك. لقد تكيف الجيش كمؤسسة على بعض، وليس كل، متطلبات مكافحة التمرد (على سبيل المثال، لا يزال من الصعب تخصيص الأعداد الكافية من الجنود الممتازين لمهمة تدريب القوات الأفغانية). وقد قدمت الوكالات المدنية الوعود التي لم تتمكن من الوفاء بها؛ لكن مرة أخرى، لا تمتلك معظم هذه الوكالات الموارد ولا القيادة لكي تصبح شريكا فاعلا مع الجيش. وفي الغالب، تلقى القادة السياسيون تقييمات مضللة من المحترفين في الجيش بشأن ما يحدث في الميدان.

واليوم، وفي خضم الصراع، لا نستطيع تحقيق التجرد الذي ستتسم به كتابات المؤرخين العسكريين بعد 50 عاما من الآن. لكن يمكننا على الأقل التمسك ببعض المبادئ الأساسية في تفسير الحروب أمام أنفسنا.

وأول هذه المبادئ أن القيادة السياسية هي دوما الطرف المسؤول. فهي مسؤولة عن اختيار الحرب، ومسؤولة عن وضع الاستراتيجية، ومسؤولة عن القادة العسكريين الذين تستعين بهم وتقيلهم، ومسؤولة عن النجاح أو الإخفاق في النهاية. لا ينبغي مطلقا أن تكون خارج المعادلة. والمبدأ الثاني هو الاعتراف بأن المؤسسات العسكرية وقادتها ليست مثالية بصورة أساسية، حيث إن القادة يتباينون في الكفاءة؛ فعدد قليل للغاية لديه جميع السمات اللازمة لتحقيق النصر، لا سيما في عصر أصبح أكثر تعقيدا بفعل الدورات الإخبارية المتواصلة. وقد تتوقف هذه المؤسسات بعناد عن القيام بما ينبغي لها فعله، وهذا هو السبب في أن كتاب «البيروقراطية تفعل فعلها»، الذي ألفه روبرت كومر حول حرب فيتنام، يستحق القراءة.

والقصص الأخلاقية المزدوجة حول فيتنام وحرب الخليج قادت إلى قدر كبير من الأضرار: فقد قادت إلى توقعات غير واقعية وشجعت سلوكا أحمق. ومع ذلك، ينبغي النظر إلى قصة المقابلة الحمقاء مع ستانلي ماكريستال على أنها شيء مختلف: زلة لسان مأساوية من قائد عظيم وفريق العمل الخاص به الذي يحمل نوايا حسنة، وإن كان أحمق وغير منضبط. وعودة المنتصر في حرب واحدة، ديفيد بترايوس، لتحقيق النصر في حرب أخرى تنطوي على مقومات مزيد من القصص، سواء كانت بطولية أو مأساوية، أو كلتيهما. لكن في الوقت الراهن، فهذه القصة كافية.

* أستاذ بمدرسة الدراسات الدولية المتقدمة بجامعة جونز هوبكينز.. ومستشار بوزارة الخارجية الأميركية بين 2007 و2009

* خدمة «واشنطن بوست»