لماذا لا ننظر إلى الصورة الأكبر؟

TT

«من درى درى.. واللي ما درى يقول كيل عدس»

(مثل شعبي عربي)

ثمة صورة كبرى لمنطقة الشرق الأوسط.. إلا أنها تتكون من مجموعة من الصور الصغيرة على قياس الكيانات «الوطنية» والمكونات «الفئوية» للمنطقة. ولذا، يستحيل فصل توترات تبدو محلية محدودة، كإطلاق صاروخ «قسام» على مستعمرة سديروت الإسرائيلية من قطاع غزة.. وانفجار سيارة مفخخة في بغداد أو الحلة.. أو تصدي مواطنين لقوات «اليونيفيل» الدولية في جنوب لبنان عن المواجهات الأكبر والأشمل.

في انتظار ظهور قدرة سياسية عربية، أقله على ممارسة الابتزاز، تبرز أمامنا ثلاث قوى ثقيلة الوزن؛ هي الولايات المتحدة وإسرائيل وإيران.. قد تنضم إليها في فترة ما قوة رابعة هي تركيا.

الولايات المتحدة، كـ«قوة عظمى»، لديها طبعا حسابات اقتصادية وسياسية وعسكرية متنوعة في قطاعات متعددة من العالم.. تنبع وفق مصطلحات ثقافتها السياسية من «المصالح الوطنية الأميركية». غير أن العقود الستة الماضية شهدت تماهيا لا مثيل له في الدنيا بين «المصلحة الأميركية» في الشرق الأوسط ومطامع إسرائيل.. التي غدت «المفوض الإقليمي» الأميركي الأساسي.

أما إسرائيل، فعلى الرغم من أذرعها الطويلة الممتدة عبر العالم، فإن قرارها يظل ذاتيا وأولوياتها الاستراتيجية والتكتيكية مضبوطة على إيقاعه. وهي خلال العقود الثلاثة الأخيرة تستثمر موقعها المميز على الساحة «المصلحية» الأميركية لاستغلال أحادية واشنطن الدولية في خدمة الأولويات الإسرائيلية في الشرق الأوسط. ومفهوم أنه، بسبب التعددية الحزبية في البلدين، تتمتع إسرائيل داخل الكونغرس الأميركي بتأييد أوسع من التأييد (الحزبي) الذي يتمتع به الرئيس الأميركي، وكذلك لرئيس الوزراء الإسرائيلي - كائنا من كان - داخل الكونغرس الأميركي من التأييد أكبر مما له في الكنيست الإسرائيلي.

وأما إيران، حليف واشنطن طيلة سنوات «الحرب الباردة»، فقد استفادت - مثلها مثل تركيا - من علاقاتها الطيبة السابقة مع واشنطن في تلك المرحلة.. لأن المواجهة العالمية قبل انتهاء «الحرب الباردة» كانت بين الولايات المتحدة و«خصمها» الاتحاد السوفياتي المتاخم للإمبراطوريتين المسلمتين السابقتين والمتنازع معهما حدوديا حتى الاحتراب. وبالتالي، كان منطقيا تخوف كل من إيران وتركيا «المحافظتين» من قوة موسكو وآيديولوجيتها، ونجاحاتها في دعم الحركات الثورية في آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينية.

غير أن التحولات الجوهرية الحاصلة داخل إيران - كباقي دول المنطقة - وتغير معايير العداوة والتحالف، وتبلور الطموحات القومية والطروحات الفكرية والعقائدية، أنتجت واقعا إقليميا جديدا تماما. أما الثابت الوحيد فظل «المشروع الصهيوني» القائم على حالة تناقض فظيع بين خوف إسرائيل على المصير.. وخوفها الأكبر من السلام. ولخدمة هذا «المشروع» اعتمدت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة خطتين متوازيتين تكمل كلتاهما الأخرى.

الخطة الأولى، التحصين الداخلي، عسكريا وديموغرافيا، بتسريع بناء المستعمرات وتوسيعها في كل الأراضي المحتلة، وبناء «سور الفصل»، لإجهاض أي إمكانية لقيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

الخطة الثانية، تشجيع التطرف الفئوي واستثمار ازدهار الطرح الطائفي العرقي في المنطقة في أعقاب سقوط البديلين؛ القومي واليساري. وبما أن منطقة الشرق الأوسط تتشكل من فسيفساء دينية وطائفية وعرقية ولغوية، فإن تشجيع التطرف عند كل فئة لا بد أن يفضي إلى سلسلة من الفتن والحروب الأهلية. ومن ثم، سيكون من الطبيعي ازدياد أهمية إسرائيل للغرب.. وهي التي أسهم «اللوبي» المرتبط بها في واشنطن، أصلا، في ابتكار مفهوم «مكافحة الإرهاب» وجعله «عقيدة» و«استراتيجية» أميركية قائمة بذاتها.

ظاهريا، هناك صراع على المنطقة بين محور واشنطن وتل أبيب ومحور طهران، لكن المثير في الأمر أن الأفق السياسي هو «الغائب الكبير» في هذا الصراع. والظاهر، أيضا، أن التفويض الأميركي لإسرائيل مستمر.. على الأقل في «تعريف» شكل الصراع واختيار أسلحته، بينما تكسب طهران «لعبة الوقت» سواء بالنسبة لتطويرها السلاح النووي، أو تحولها إلى مرجعية سياسية للمنطقة.

واشنطن تكرر أنها لن تسمح لطهران بأن تصبح قوة نووية، والشائعات المسربة تزعم أن واشنطن هي التي تمنع تل أبيب من مهاجمة المرافق النووية الإيرانية. وفي المقابل، طهران تناور في حسم تشكيل السلطة في العراق، وتتحرش بقوات «اليونيفيل» وتبتز دولها في جنوب لبنان، وتواصل تحريك ورقة حماس في غزة وخارج غزة.

هل صحيح أن واشنطن عاجزة إلى هذا الحد؟ وأن كل هذا يحصل ضد إرادة إسرائيل ورغبتها؟