صعوبة الارتقاء بالجامعة إلى اتحاد عربي

TT

شكرا للساحر مارادونا! فقد سمح للعرب بالارتقاء، لحظات قليلة، من لعبة الأقدام، إلى إشغال العقل العربي بالوهم المستحيل: «الاتحاد». فقد وجدت القمة الخماسية في ليبيا حلا لفشل منظومة العمل العربي المشترك. اقترحت على القمة الخريفية المقبلة تتويج «الجامعة العربية» بلقب «الاتحاد».

هذا الحل الرمزي يستدعي سؤالا جديا وصعبا: هل العرب أمة تربطها عواطف ومصالح مشتركة؟ إذا كانت كذلك، فلماذا تخفق مؤسستا العمل العربي المشترك: الجامعة. والقمة؟

الجواب يشكل تحديا تاريخيا للمفهوم القومي للاتحاد وللوحدة. الواقع أن شعور العرب بأنهم أمة كان ضعيفا. أممية الإسلام، كرسالة دينية موجهة إلى شعوب وأقوام مختلفة، كتمت الإحساس البديهي لدى العرب بأنهم أمة. بقي التعبير عن الانتماء مجرد نصيحة، في أحاديث نبوية وصحابية، إلى المسلمين برعاية العرب. فهم «مادة الإسلام». وظل التعبير عن الهوية القومية مجرد أحاسيس خجولة، في الشعر، تحن إلى الوطن واللغة. وتصل إلى الحزن الاحتجاجي لدى المتنبي، على أفول نجم العرب كسلطة وقوة.

في المقابل، لم يرتق الإيمان الديني لدى الأمم والشعوب المتأسلمة، إلى تناسي هوياتها وثقافاتها ولغاتها. إنما استخدمت إسلامها ذريعة لاحتلال العرب نحو ألف سنة. كان الإسلام العثماني صادقا في إيمانه. لكن في استعماره العرب أربعة قرون، فرض التركية ثقافة ولغة رسمية.

مع الصحوة خلال القرنين الماضيين، كان الإنجاز الحقيقي للعرب هو الاسترداد المدهش للغة. الوعي الثقافي واللغوي ارتقى إلى إحياء شعبي للهوية والشعور القومي، خصوصا في الشرق، بأن العرب أمة، وليسوا شعوبا. أو قبائل. أو مجتمعات غريبة عن بعضها بعضا.

من البديهي، أن يولِّد إحياء اللغة والثقافة وانبعاث الانتماء للأمة الحنين الجارف، نحو الوحدة القومية، في النصف الأول من القرن العشرين. حروب القبائل الأوروبية فرضت على السياسة البريطانية منافسة ألمانيا النازية، في مسايرة العرب في عواطفهم القومية والوحدوية. لكن كان الاستقلال بديلا للوحدة. وكانت «الجامعة العربية» إلهاءً عن الاتحاد. كانت اقتراحا بريطانيا. وهكذا، غدت الجامعة مجرد «كومنولث» يجمع دولا مستقلة. فخورة بكياناتها. بسيادتها. بحدودها. بسلطة أنظمتها.

ثقافة الاستقلال والسيادة أضعفت ثقافة الوحدة والاتحاد. سارت منظومة العمل العربي المشترك إلى التراجع عن التنسيق. عن التعاون. عن التضامن. إلى التباعد. الخلاف. ثم الاختراق الخطير الراهن المتمثل بالاستقواء، برهانات وتحالفات إقليمية ودولية مختلفة. وهي بدورها متناقضة. متنافسة في المصالح والأغراض الاستراتيجية.

فشل الوحدة المصرية السورية. عدم جدية جبهات «الصمود والتصدي». هزيمة المشروع القومي أمام المشروع الصهيوني... كل ذلك أغرى بتسييس الدين. غير أن هذا التسييس سرعان ما استغلته دول إقليمية، لاختراق المشرق والنظام العربي والتنظيمات الدينية (حزب الله. حماس. الجهاد)، من خلال استثارة الشعور العربي إزاء المأساة الفلسطينية.

تنمية المشاعر الدينية، أدى بتسييس الدين إلى العنف الديني. كان النظام العربي أكثر كفاءة ونجاحا من أميركا في مكافحة «الإرهاب». بيد أن التنظيمات «الجهادية» في عنفها ضد المجتمع العربي والإسلامي، قوضت، أو أجلت المشروع الديمقراطي، بحجة أنه يتعارض مع الدين. كذلك، فالنظام العربي في حرصه على أمنه، وعلى الاستقرار الاجتماعي، اضطر إلى تضييق مساحة الانفتاح السياسي، معوضا عن ذلك بحرية الانفتاح الاقتصادي.

قمة العرب الخماسية في ليبيا تعبر عن قلق النظام العربي إزاء الفراغ الحاصل في المنطقة، بسبب تراجع الدور العربي أمام الاختراقات الإقليمية والدولية والإسرائيلية. الجانب الأكبر من القلق ناجم عن التخوف من نتائج الارتباط العربي بتحالفات غير عربية، باتت مفضلة ومرجحة على شعارات التضامن التي ترفعها الجامعة والقمة، كإطار لمنظومة العمل العربي المشترك.

بتعبير آخر، التضامن العربي لم يكن كافيا لحماية النظام السوري من الضغوط الأميركية والتهديدات الإسرائيلية بعد احتلال العراق (2003) واغتيال رفيق الحريري (2005). لفك العزلة، وثَّق النظام السوري ارتباطه بإيران. بل نجحت الحرفة الدبلوماسية السورية في اجتذاب تركيا، كوسيط مع إسرائيل، وربما لهدهدة التهديدات الأميركية التي لم يكن الانسحاب السوري من لبنان، كافيا لوضع حد لها.

الطريف أن أميركا حلت محل سورية في زنزانة العزلة في المنطقة. خسرت أميركا بوش وأوباما قدرا كبيرا من نفوذها السياسي ومصداقيتها الدبلوماسية، على الرغم من وجودها العسكري. السبب عجزها، أو عدم رغبتها في لجم إسرائيل. عجزها عن تحويل حربها الأمنية مع «الإسلام الجهادي» في أفغانستان وباكستان والصومال واليمن، إلى مواجهة ثقافية وتربوية، مساهمة منها في إعداد أجيال جديدة أكثر وعيا وانفتاحا، مما تجد هذه الأجيال، مثلا، في 16 ألف مدرسة دينية في باكستان وحدها.

واقعية الرئيس مبارك أقنعته بالاكتفاء بـ«الاتحاد» الرمزي. نجح الرئيس المصري في القمة الخماسية، بإعادة فشل منظومة العمل العربي المشترك إلى القمة الجماعية. مبارك يعرف، ضمنا وسلفا، أن لا ارتقاء بالجامعة إلى اتحاد واقعي، بلا التزام النظام العربي بقرارات القمة والجامعة، بلا العودة على الأقل إلى دائرة التضامن، وبمعزل عن الارتباط الإقليمي والدولي.

في استضافتها الجامعة العربية، كانت مصر واقعية في حركتها العربية، باستثناء المرحلة الناصرية (1952/1970) التي أخطأت في اعتبار النظام الملكي والخليجي مضادا للوحدة. ها هو مبارك يثبت أن مصر قادرة على التعاون والتنسيق مع هذا النظام، بأكثر من التعاون والتنسيق مع النظام الجمهوري العربي.

المرونة الدبلوماسية السعودية تكفلت بالتوصل إلى تفاهم وتسوية مع سورية في لبنان، حيث تمسك دمشق بأكثر من خيط للربط والحل هناك. تبدو حكومة الوفاق الحريرية أكثر مسايرة لسورية من حكومة السنيورة السابقة. بل استدارة وليد جنبلاط نحو سورية تأتي في إطار المرونة السعودية، من دون أن يقطع شعرة معاوية مع جناح 14 آذار.

جهد القيادة السعودية يتركز حاليا على مصالحة النظام العربي (في سورية) مع النظام العربي (في مصر) المتضايق مما يعتبره «تدخلا» إيرانيا وقطريا، للحيلولة دون تحقيق المصالحة الفلسطينية برعاية مصرية. غير أن غياب السعودية وسورية عن القمة الخماسية يجعل من مشروع «الاتحاد» الذي طرحه اليمن غير واقعي. لأن هاتين الدولتين تتحكمان عمليا في أي نجاح أو فشل لمنظومة العمل العربي المشترك.

يبقى أن أقول إن عمرو موسى، في إدارته لمؤسسة الجامعة، كان صادقا ومخلصا في وفائه لمبدأ التضامن العربي، على الرغم من محاولته استرضاء نظام صدام التي أثارت عليه غضب واحتجاج دول الخليج. كذلك تفكيره وتخطيطه لإنشاء مؤسسات موازية، كمحكمة عدل عربية، أو برلمان عربي، متجاهلا واقع غياب إلزام النظام العربي بقرار الجامعة أو القمة، وإخفاق البرلمانات العربية التي يعرف هو قبل غيره كيف يتم انتخابها.

لعل عمرو موسى كان واقعيا ومفيدا لو أنه أنشأ مركز دراسات عربية في الجامعة. مركزا قادرا على تقديم أفكار وبحوث عن كيفية الارتقاء بالجامعة والقمة والعرب جميعا، نحو هذا الوهم الجميل والمستحيل: وهم الاتحاد أو الوحدة.