لماذا «فقدت» القضية الفلسطينية صفتها المركزية؟

TT

من حق الفلسطينيين أن ينزعجوا عندما يقال إن معاناتهم لم تعد القضية المركزية للعرب. وكذلك من حق من يشعرون بقلق شديد من الدور الإيراني الاستغراب من عدم إعطاء مبررات قلقهم التوصيف المطلوب في تصنيف القضايا. فالواقفون على خط التماس السياسي والأمني والثقافي من مثلث الحدود التركية - العراقية - الإيرانية شمالا حتى بحر العرب جنوبا، والمتابعون للتدخلات الإيرانية، التي تستهدف إثارة المشكلات والفتن في العمق الاستراتيجي القريب والبعيد جغرافيا، لهم الحق في تكوين رؤيتهم وعدم الانسياق وراء الشعارات الانفعالية والعاطفية. فيظهر تفاوت مصالح بين الطرفين يمكن معالجته بهدوء بموجب أسبقيات التهديد ووفق منطق عقلاني.

القضية المركزية تعني وجود تهديدات تشكل قضايا متباينة التأثير، فيصار إلى توصيف أخطرها بالمركزية. وخلال عقودها الثلاثة الأولى، اكتسبت القضية الفلسطينية الصفة المركزية. فلم تكن هناك تهديدات خطرة تهدد المنظومة العربية في مناطق أخرى. ومع بداية الثورة الإيرانية، التي انحرفت عن مسارها المفترض داخليا وخارجيا، بدأت المعادلات بالانقلاب التدريجي. فالإصرار الإيراني على مواصلة حرب السنوات الثماني وضع منطقة الخليج تحديدا في موقف خطر للغاية. وتمكن العراق وقتئذ، وبمؤازرة عربية، وتفهم غربي عقلاني للموقف، من حسم الصراع قبل أن تنقلب المعادلات بقرار يوم الشؤم (قرار غزو العراق 2/8/1990). ويفترض بالبعثيين الاعتراف - ولو داخليا - بأن ذلك القرار كان السبب الأكبر للمحنة.

كلما أراجع ملاحظاتي عن كلمة الرئيس الفلسطيني أبو مازن في الجلسة المغلقة للقادة العرب في قمة الخرطوم 2006 أخرج باستنتاج رئيسي واحد، وهو أن الرجل أدرك في الوقت المناسب أن قضيتهم فقدت مركزيتها، وعليه التعاطي مع الصراع بطريقة واقعية. فلا العرب مستعدون لمواصلة العطاء كما تتطلب مركزية القضية، ولا الفلسطينيون قادرون على تحمل الأعباء وحدهم، ولا الآخرون من غير العرب يصدقون في توجهات دعمهم لمفهوم المقاومة.

والمسؤولون الفلسطينيون أنفسهم ساهموا في إطالة معاناة شعبهم بثلاثة مواقف: أولها الصراع الداخلي والاقتتال، وعلاقات حماس «المؤسفة» مع إيران، والقصور في فهم تداعيات تسخين الصراع أكثر من اللازم. ومهما بررت حماس علاقاتها مع إيران تبقى في موضع الاتهام بالتنسيق مع طرف يستهدف الأمة التي تنتمي إليها. وقد قال لي صديق خليجي له علاقات طويلة مع أحد قيادات حماس ونقلا عنه، إن إيران تقدم لحماس مبالغ كبيرة، فهل العرب مستعدون لتعويضها؟ ولست أنا من يجيب عن هذا بالطبع، لكني أظن أنه ليس كل العرب مستعدون لأن يدفعوا لها دولارا واحدا، إلا إذا قبلت بالنهج الذي يراعي مصالحهم الكبرى وهواجسهم الأمنية.

اقرأوا لطفا الفقرات التالية التي قالها سفير إيران في الكويت بالمناسبة الحادية والعشرين لوفاة الخميني: «آن الأوان لبعض القادة العرب أن يستفيقوا من سباتهم، ويعوا هذه المؤامرات وينصاعوا لرغبات شعوبهم. فسراب السلام طريق مسدود». ولإثبات واقعية ومصداقية هذه الدعوات يجب أن تتخلى إيران عن سياستها الاستفزازية العدائية أولا، وأن تبرهن تخليها بوقف برامجها النووية والصاروخية ونشاطات التجسس والتخريب، وترفع يدها عن العراق ولبنان.. وتوقف إعلامها الظلامي. وبخلاف ذلك لا يمكن تفسير دعواتها إلا على أساس التحريض لتوريط العرب في حروب تساعدها على تحقيق غاياتها المدمرة. أما المساعدات التي تقدمها إلى حركات مسلحة فيمكن إدراجها ضمن نفقات البرامج الكبرى لتحقيق غاية خطرة.

وكما جرت الإشارة إليه في مناسبة سابقة، فإن إسرائيل لم تعد قادرة على تحمل تبعات احتلال شبر آخر من أراضي الغير، وستكسب كثيرا لو رضخت لمنطق العقل وأعادت الجولان إلى أهله بلا حرب. وما دام الفلسطينيون قد قبلوا بدولة على حدود 4 يونيو (حزيران) 1967، فإن الطابع الاستراتيجي المركزي فقد مقومات الاستقطاب العربي السابق.

أما إيران، فتجاوزات نظامها الحالي لا حدود لها. وإلا هل يعقل أن يسيء حاكمها الأعلى إلى صحابة مبجلين في نظر أكثر من مليار شخص، لو كانت نظرته مبنية على قواعد المحبة والسلام؟

وطبقا لهذه الحقائق - ولنفترضها تصورات قابلة للنقاش - أصبح توجيه القدرات العربية ضمن إطار أممي خيارا حاسما، لمجابهة التهديد الإيراني. على أمل أن يصل أصدقاء الحرية من المعارضين الليبراليين إلى الحكم في طهران، لبدء صفحة من التفاهم والتعاون.