نظام ديكتاتوري.. لكن بموجب الدستور!

TT

دأبت الحكومات العراقية المتعاقبة على تداول السلطة منذ تشكيل أول حكومة انتقالية برئاسة عبدالرحمن النقيب عام 1920 إلى سقوط آخر حكومة لنوري السعيد على يد عبدالكريم قاسم عام 1958. لم تكن تلك الحكومات لتنتظر حدوث أزمة سياسية كبيرة تضع البلاد على حافة الانهيار كما يحدث اليوم، حتى تتنازل وتتقدم باستقالاتها لتفسح المجال لغيرها لتجربة حظها في إدارة الدولة، وكذلك لم يكن الرؤساء الذين كانوا يقودون هذه الحكومات يتمتعون بقصر نظر سياسي وهم يعلنون على رؤوس الأشهاد عجزهم وفشلهم في مواجهة مشكلات البلد، كما يتبادر إلى ذهن البعض - لا سامح الله.. بل كانوا يتمتعون بأقصى درجات الحس السياسي، وينطلقون من حرص وطني شديد على مصالح العباد والبلاد. كانوا يأملون حقيقة ومن دون حقد أو حسد مجيء حكومة قوية قادرة فعلا على معالجة تلك المشكلات التي عجزوا هم عن ايجاد حل لها.

هذه العادة الديمقراطية الحسنة كانت موجودة طوال العهد الملكي، أي حكومة ترى نفسها عاجزة عن القيام بالمطلوب تستقيل فورا من دون النظر إلى الامتيازات والمصالح والمناصب الرفيعة التي تفتقدها، ومن غير أن تحسب حسابا لجهة أو تبالي بـ«زعل» إحدى دول الجوار! تقدم استقالتها وإن كانت لأسباب قد نعتبرها اليوم تافهة وغير مقنعة، فقد قامت حكومة رشيد عالي الكيلاني بتقديم استقالتها بمجرد أن انقسم فريق وزارته بين مؤيد - ولو بشكل صوري - لدول المحور وآخر مؤيد لدول الحلفاء..!

ولم تجد حكومة ناجي شوكت رئيس الوزراء العراقي عام 1933 بدا من تقديم استقالتها بعدما رفض الملك فيصل اقتراحه القاضي بإشراك المعارضة «المعتدلة» في حكومته. لم يلجأ الرجل إلى التهديد والوعيد باستعمال القوة المسلحة باعتباره قائدا عاما للقوات المسلحة لفرض إرادته، ولم يعطل الدستور، ولم يدخل البلاد في أزمة خانقة كما يفعل بعض السياسيين اليوم، بل احترم نفسه وقدم استقالته وجلس في بيته معززا مكرما مع دعوات الشعب له بالموفقية.

فالاستقالات أيام الملكية كانت تتم بيسر وسهولة، من دون أن تعترض طريقها تعقيدات المحاصصة الطائفية أو العرقية، ولم تكن نهاية الحكومة تعني لهم نهاية العالم، بل تعتبر انطلاقة لمشوار جديد.

يكفي أن نذكر أن نوري السعيد قام بتشكيل الحكومة لأربع عشرة مرة، في كل مرة يرفع استقالة حكومته ويشكل أخرى بفريق وزاري جديد.

وفي إحدى المرات من عام 1944 صادف أن هاجم بعض النواب من المعارضة حكومته وأسمعوه كلاما بذيئا، فأحس بأن كرامته قد ثلمت، ومكانته قد اهتزت، فما كان منه إلا أن قدم استقالة حكومته! ليضرب بذلك أروع مثال للسياسي الذي يحترم مهنته وشعبه ولا يرضى لنفسه بأن يغوص في الإسفاف والابتذال من أجل مكسب سياسي زائل.

فشتان بين نوري السعيد الذي يعتبر باني العراق الديمقراطي المعاصر، ونوري المالكي الذي تعطل الدستور بسببه، ودبت الفوضى في مؤسسات الدولة الأمنية منها والخدمية، وانتكست نشاطاتها، ولم يعد العراق قادرا على أداء مهامه كدولة بالمستوى المطلوب، بسبب استئثاره بالسلطة وإصراره على البقاء في الحكم «ولو بالقوة كما صرح بذلك مرارا وتكرارا»، وقد ضرب أروع مثال للسياسي الانتهازي الذي قفز إلى السلطة في خلسة من الزمن، وعلى أكتاف سيده ورئيسه السابق في الحزب ابراهيم الجعفري ليخطف منه الجمل بما حمل «رئاسة الحزب ورئاسة الوزراء».

والذنب ليس ذنب المالكي وإن فعل أكثر من ذلك، بل هو ذنب الدستور الذي أعطى صلاحية واسعة جدا لرئيس الوزراء، بموجب فقرات منه يملك رئيس الحكومة العراق ومن عليه، ويستطيع أن يتصرف بهما كيفما يشاء وبأي طريقة يشاء، كلمته أوامر على الصغير قبل الكبير، لا راد لمشيئته، فهو «كل في كل»؛ الرئيس التنفيذي للبلاد والقائد العام للقوات المسلحة بإمكانه أن يعين من انصاره أو من أقاربه العدد الذي يريد من دون الرجوع إلى البرلمان أو غيره لأخذ الموافقة الأصولية..

أموال الدولة مرمية تحت قدميه، قبل أن تدخل إلى خزائن الدولة تدخل إلى خزينته الشخصية، ليشتري بها فيما بعد ذمم بعض الناس، وقد فعل، والا فكيف يمكن لحزب صغير، مثل الدعوة، وهو منشق عن حزب صغير (أي نصف حزب) أن يحصد 89% من أصوات الناخبين في انتخابات 7/3/2010؟؟؟!!

والأدهى من ذلك أن الآخرين ومن ضمنهم رئيس الجمهورية ونائباه ورئيس البرلمان ونائباه، وكذلك الوزراء، لا يملكون من السلطات إلا القشور، يعني؛ لا شيء، مجرد ديكورات يجملون صورة رئيس الحكومة ويساعدون سيادته على قضم البلاد وضمها في «عبه».

لا يمكن أن تنجح مسيرة الديمقراطية في العراق ما لم تجر تغييرات كاملة على تلك المواد الدستورية التي تشرعن للحكم الفردي، وتؤسس لسلطة ديكتاتورية واسعة، وقد ظهرت بوادرها بوضوح.

يجب أن «نلحق» أنفسنا قبل أن تستفحل الأمور أكثر، وتذهب كل التضحيات التي قدمت أدراج الرياح، ونبتلى ثانية بنظام ديكتاتوري بغيض مشابه للأنظمة الديكتاتورية السابقة، ونبدأ من جديد نلطم ونولول ونلعن حظنا العاثر.

* كاتب وصحافي عراقي