صناعة سيارة في السعودية.. الحدث الكبير

TT

كثر المعلقون والمشككون حول الفائدة من صناعة السيارات في المملكة، مدللين بسيارة «غزال1» التي صنعتها جامعة الملك سعود، وتساءلوا عن الجدوى من الانشغال بصناعة سبقنا إليها الأولون من الأوروبيين والآسيويين، ولا مجال لمنافستهم فيها، وعبّروا عن خشيتهم من أن تصبح صناعة السيارات مثل زراعة القمح، خطا استراتيجيا ستقع فيه السعودية.

الحقيقة أن صناعة سيارة في السعودية حدث كبير، جدير بإثارة الجدل والنقاش والتساؤلات، ولا يثير العقل إلا الأفكار الكبيرة. الذين استصعبوا دخول السعودية مجال صناعة السيارات هم أنفسهم الذين ظنوا قبل 80 عاما أن السيارة من أفعال الجن.

دول المنطقة بشكل عام متأخرة في الصناعة عن مثيلاتها في الغرب، متأخرة حتى في الصناعات القائمة فيها منذ عقود، ولكن هذه الحقيقة يجدر بها أن تكون تحفيزا لتطوير هذه الصناعات وليس لغلق أبوابها. بل إننا متأخرون عن الغرب في معظم قطاعات التنمية وليس فقط الصناعة، القطاع الطبي لدينا لا يقارن بالولايات المتحدة ولكن هذا لم يمنع السعودية من تحقيق إنجازات طبية منافسة، متأخرون في التعليم العالي عن أوروبا ولكن هذا لم يعوق المملكة عن الدخول في تصنيف شنغهاي العالمي كدولة عربية وحيدة.

من اطلع على الاستراتيجية الوطنية للصناعة، التي وضعتها السعودية بداية عام 1430هـ، يدرك من السطور الأولى أن هناك دعوة صريحة لضرورة توسيع قاعدة الاقتصاد السعودي من خلال تنويع قطاعاته وعلى رأسها الصناعة، في دولة تشعر بالضيق من اعتمادها شبه الكامل على الاقتصاد المبني على الزيت الأسود. هذه الاستراتيجية الوطنية عمرها حتى عام 1441هـ، أي عشر سنوات من الآن، وهي بمثابة الجلوس أمام المرآة لتفحص ملامح الاقتصاد الوطني السعودي والوقوف على ما تم وما تأخر وما تباطأ إنجازه.

هذه الرغبة في تنويع الاقتصاد السعودي أكدت أهميتها دراسات كثيرة، محلية وأجنبية، والتنويع هنا لن يولد من فراغ، بل رسمت طريقه هذه الاستراتيجية التي لو قدر الله لها التطبيق كما في نصها، فستكون قفزة نوعية غير مسبوقة في اقتصاد الدولة، وسيمتد أثرها حتى بعد عمرها الزمني المرصود.

السعودية أسست قبل 3 سنوات بقرار مجلس الوزراء ما عرف بـ«البرنامج الوطني لتطوير التجمعات الصناعية»، مهمة البرنامج كما جاء نصا في الاستراتيجية «بناء وتطوير منظومة تجمعات تصنيع، توفر منتجات ذات قيمة مضافة وقادرة على المنافسة في الأسواق العالمية وخارجة عن نطاق المنتجات البترولية والبتروكيميائية والمعدنية. يجسد هذا البرنامج الخيار الوطني بتنويع مصادر الدخل من خلال تأسيس قاعدة صناعية تنمي التقنية والاستثمارات، وتوفر فرص عمل لأبناء وبنات الوطن، وتصنع منتجات قابلة للتصدير تستطيع المنافسة عالميا. لقد أثبتت التجارب أن الدول التي نجحت في تحقيق المزيد من التنافسية على المستوى الدولي هي الدول التي استطاعت إقامة مجمعات وتجمعات صناعية مرتبطة بمراكز البحث العلمي وتطوير التقنية، ومنها دول نامية مثل البرازيل وكوريا الجنوبية».

هذا البرنامج قام كما ذكرت الاستراتيجية وبمساعدة عدد من بيوت الاستشارات العالمية المتخصصة، بمسح شامل لجميع الأنشطة التصنيعية التي أثبتت نجاحا عالميا، وحصر ذلك المسح خمسة قطاعات تصنيعية ليبدأ البرنامج بها وهي: تجمع تصنيع السيارات وأجزائها، تجمع تصنيع معالجة المعادن، تجمع تصنيع الأجهزة عامة الاستخدام، وتجمع تصنيع مواد البناء، وأخيرا تجمع تصنيع حاويات التغليف المرنة.

من الواضح أن السعودية في رؤيتها المستقبلية تتطلع إلى دخول عالم صناعة السيارات، ومن الجدير بها أن تفعل فهي أكبر سوق لهذه السلعة في منطقة الشرق الأوسط التي يبلغ حجمها 11 مليار دولار سنويا، بل إن اختيار هذا القطاع والتركيز عليه أمر يعد أولوية عن كثير من الصناعات الأخرى. وصناعة السيارة ليست كزراعة القمح الذي شرب مياهنا الصحراوية الشحيحة غالية الثمن واكتشفنا أن استيراده أقل تكلفة، والفرق بين السلعتين أننا نملك مياه السيارة، وهي هنا السلع التي تتقدم أهم صادراتنا الصناعية؛ البتروكيماويات، والمعادن.

المملكة لديها مدينتان صناعيتان؛ الجبيل وينبع، وتعتبر صناعة البتروكيماويات والحديد والصلب والزجاج أهم صناعات الدولة القائمة والناجحة، وهذه نظريا هي المواد الأولية لصناعة السيارات. ما نحتاجه في المرحلة القادمة هو استقطاب شركات عالمية للسيارات للاستثمار داخل السعودية، وبناء شراكات استراتيجية لتعزيز هذا القطاع. ففي دراسة عن الوضع الاقتصادي والاجتماعي الحالي في السعودية قام بها الباحث أنجوس هيندلي من معهد معلومات الأعمال الشرق أوسطية، ذكر أن الاستثمار الأجنبي في مجال السيارات سيكون له عدد من المزايا، منها انخفاض تكلفة الطاقة، واتساع قاعدة المستهلكين، والتوجه نحو التوسع في صناعة الألمونيوم والكيماويات المتخصصة والمطاط الصناعي، ووجود الدعم الكامل من جانب شركة «سابك» ووزارة النفط والثروة المعدنية. وعن مستقبل هذا النوع من الصناعة، قالت الدراسة: «إن السعودية في حاجة إلى شركة سيارات كبرى في العالم لتبدأ قيادة النمو في هذا القطاع».

واستكمالا لأضلاع المثلث الصناعي؛ المصنع، والمستثمر، يأتي البحث العلمي، حيث ركزت الاستراتيجية الوطنية للصناعة بشدة على أهمية الدور الذي تلعبه الجامعات ومراكز الأبحاث في تنويع الاقتصاد القائم على المعرفة، وأوصت بضرورة زيادة المواد التعليمية لدى التعليم العالي في مجالات التصميم الهندسي والهندسة الصناعية وإدارة الجودة والهندسة الاقتصادية وهندسة الإنتاج وتوثيق الروابط بين الجامعات والمصانع.

إن أهم آلية لتنفيذ هذه الاستراتيجية هو أن تشتبك أصابع الجامعات ومراكز الأبحاث بأصابع المصانع في علاقة طويلة الأمد.

جامعة الملك سعود بإنتاجها «غزال1» أنجزت مرحلة غاية في الأهمية من مراحل الاستراتيجية الوطنية للصناعة بعد عام ونصف العام من صدورها، وتطوير هذه السيارة أو تحوير طبيعتها من الاعتماد على البنزين إلى الشمس أو الكهرباء هو شأن علمي بحت من اختصاص الجامعات ومراكز الأبحاث الذي يعول عليهم قطاع الصناعة كثيرا، ولن تواجه دولة مثل السعودية صعوبة في مثل هذا النوع من التطوير، خاصة في ظل وجود قوى بشرية واعدة كالتي شاهدناها في كلية الهندسة بجامعة الملك سعود، وكذلك في وجود مدينة الملك عبد الله للطاقة الذرية والمتجددة.

لا يشترط في «غزال1» أن تكون صناعة سعودية 100%، وأن تعمل بالطاقة الشمسية أو الكهربائية، أو تشارك اليوم في سباقات الفورميولا. هذه البادرة تم تصميمها بنسبة 90% محليا بأحدث برنامج حاسوبي منافس لنظيره الأوروبي، وصنعت محليا بنسبة 60%، وكانت ورشة العمل حقل تجربة استقبل مهندسين عالميين أثروا المشروع بخبرتهم.

نحن أمام وليد رأى النور للتو. وعلى خلفية العبارة الشهيرة للملك عبد الله بن عبد العزيز «إن الأحلام إذا ما اقترنت بعزائم الرجال قادرة بعون الله على تحقيق المعجزات» دعوني أصوّر لكم مراحل ولادة «غزال1»؛ حيث بدأت كفكرة، عبرت الطريق بخجل في لحظة نفسية إيجابية كان الجو فيها معتدل الحرارة والسماء صافية غاب عنها التلوث الضوضائي. ثم توقفت الفكرة لبرهة بعد هبوب عاصفة من الإحباط والتردد، لكنها استدارت، فاستطالت، لتكبر حلما، وعندما وافقت وجود عزيمة رجل قوي، أطلت برأسها.

* جامعة الملك سعود