ضحك وبكاء بين الرياضة والسياسة

TT

هناك مثل شعبي يقول «اللي في إيدو قلم، ما بيكتب نفسه شقي»، أي من يمسك بالقلم لا يكتب عن نفسه شقيا. هذا ما طبقه حرفيا نواب البرلمان في كينيا الأسبوع الماضي عندما صوتوا لزيادة رواتبهم ومخصصاتهم لتصل إلى نحو مليون ومائة ألف شلن شهريا، أي ما يعادل 12 ألف دولار تقريبا، وذلك في جلسة استغرقت 45 دقيقة فقط. إضافة إلى رواتبهم فإن النواب ضمنوا مخصصاتهم بندا ينص على حصول كل واحد منهم على ما يعادل 370 دولارا في اليوم لمجرد حضوره الجلسة البرلمانية.

لم يكن مستغربا أن تثير الخطوة غضبا شعبيا واسعا في كينيا، زاده إعلان وزير المالية أن الحكومة لا تملك مالا تدفع به هذه الزيادة الهائلة في رواتب النواب، وأن الميزانية الجديدة التي ستعرض على البرلمان لإجازتها هذا الأسبوع لا تتضمن أي مخصصات لاستيعاب هذه الزيادة. ولم ينس الوزير أن يقول في مؤتمر صحافي إنه يتوقع معركة كبرى مع البرلمان، خصوصا أن النواب قد يحاولون إسقاط الميزانية إذا رفضت الحكومة تمرير زيادات رواتبهم. الطريف أن أحد النواب قال خلال الجلسة البرلمانية وأثناء محاولته تبرير الزيادة الكبيرة إن هذه الخطوة «تعيد الشرف إلى مهنة السياسة»!

لتوضيح هذه الصورة المضحكة - المبكية لا بد من الإشارة إلى أن الزيادة المقترحة ستضع رواتب النواب الكينيين في قائمة الأعلى في العالم، علما بأنها كانت أصلا أعلى من رواتب النواب في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا والسويد وأستراليا على سبيل المثال، وتكاد تقترب من راتب عضو الكونغرس الأميركي. وتتضمن توصيات التقرير الذي أقره النواب زيادة راتب رئيس الوزراء الذي سيصبح أعلى بمعدل الثلث من راتب رئيس الوزراء البريطاني، وأعلى بنسبة 10 في المائة من راتب رئيس الولايات المتحدة. كذلك أقر النواب زيادة راتب رئيس الدولة بعدما كانوا أقروا في السابق صرف رواتب لزوجات الرئيس ونائبه ورئيس الوزراء «لأنهن يشجعن القيم العائلية في الدولة». كما أقر النواب لأنفسهم مكافأة مع نهاية فترة كل برلمان تعادل ثلاثة أضعاف راتبهم.

يحدث هذا في بلد يعاني من أزمة اقتصادية حادة منذ سنوات، ويبلغ متوسط دخل الفرد فيه نحو 700 دولار سنويا، ويعيش كثير من سكانه على دولار واحد يوميا. بل تحدث هذه المهزلة «العالم ثالثية» في وقت ترفع فيه الحكومة شعارات مكافحة الفساد، وتواجه كينيا خطر مجاعة تهدد شرق أفريقيا، مما دفع المنظمات الدولية إلى إطلاق التحذيرات وبدء حملات لجمع التبرعات للمساعدة في إطعام ملايين الكينيين الذين سيواجهون خطر الجوع.

النواب الكينيون الذين صموا آذانهم حتى الآن أمام الغضب الشعبي والسخرية اللاذعة في الصحف الكينية، يرون أن من حقهم الحصول على هذه المبالغ والمخصصات لأنهم «يرهقون» في أداء عملهم لتمثيل الشعب، علما بأن ما يحصلون عليه لا يمت بصلة إلى حال الشعب الذي يقولون إنهم يمثلونه.

وبما أننا الآن في مرحلة نهايات كأس العالم لكرة القدم، يمكننا أن نقارن بين ما قام به نواب برلمان كينيا، وما فعله لاعبو فريق أوروغواي الذين مثلوا بلدهم وشعبهم أيضا في مناسبة تشد أنظار العالم كله. فلاعبو الفريق ومسؤولوه، كما ورد في تعليق إذاعي، قرروا وضع سقف للمستحقات التي يحصلون عليها من بلدهم جراء مشاركتهم في نهائيات كأس العالم. فقد كان مقررا أن يحصل كل منهم على مكافأة تعادل ألف دولار يوميا طوال وجودهم في جنوب أفريقيا للمنافسات، لكنهم وافقوا على أن يكون هناك سقف أعلى بحيث لا يتجاوز ما يحصل عليه الواحد منهم 14 ألف دولار حتى لو مكثوا أكثر من شهر في البطولة. بل إنهم قرروا التبرع بقسم من مخصصاتهم لأعمال خيرية في بلدهم لأنهم يعتبرون تمثيل البلد والشعب «شرفا كبيرا»، ويرون هذه المسؤولية فخرا لكل واحد منهم، يتنازل بموجبه عن المخصصات.

أوروغواي كان بمقدورها أن تدفع أكثر للاعبيها لأنها قطعا أحسن حالا بكثير من كينيا، فهي وإن كانت بلدا صغيرا لا يتجاوز عدد سكانه الثلاثة ملايين وأربعمائة ألف نسمة، إلا أنها تتمتع باقتصاد أكثر تعافيا من الاقتصاد الكيني. ولتسهيل المقارنة يمكن الإشارة إلى أن متوسط دخل الفرد في أوروغواي، التي تعتبر من أكثر الدول ازدهارا في أميركا الجنوبية، يعادل 12 ألفا وسبعمائة دولار سنويا، ونسبة البطالة فيها تقدر بنحو 7 في المائة مقارنة بنسبة 40 في المائة في كينيا. هذا البلد الأميركي الجنوبي الصغير الواقع بين بلدين عملاقين هما البرازيل والأرجنتين، استطاع أن يصبح ظاهرة كروية، فهو أصغر بلد يفوز بكأس العالم مرتين، كما أنه بين عمالقة الكرة في أميركا الجنوبية، إذ فاز بكأس أميركا 14 مرة وبالميدالية الذهبية في الأولمبياد مرتين. ورغم أن اللاعبين فيه لا يتقاضون رواتب عالية مثل لاعبي أوروبا، فإن إنجازاتهم تتحدث عن نفسها، وحتى مدرب منتخبهم الحالي، أوسكار تاباريز، الذي كان يعمل مدرسا في السابق ولذلك يلقب بالمعلم أو المايسترو، يتقاضى راتبا يعتبر الأقل بين المدربين، بل إنه كان في ذيل قائمة رواتب مدربي الفرق التي وصلت إلى نهائيات كأس العالم، وليس أقل من راتبه إلا راتب مدربي كوريا الشمالية ونيجيريا.

إن المال وحده ليس هو المحفز لكي يقدم الإنسان عطاء لبلده، وربما كان هذا هو الفارق بين لاعبي أوروغواي ونواب برلمان كينيا.