تأملات في حكاية كأس العالم!!

TT

لا يستطيع أحد أن يتخلص بسهولة من حكايات كأس العالم هذه الأيام، وما عليك إلا أن تنتبه إلى سلوكيات رؤساء الدول المشتركة في المسابقة الكبرى حتى تدرك أهمية المسألة، ليس فقط لأن اجتماعا رئاسيا ينتهي إلى مناقشة سلامة واحد من الأهداف (ليست السياسية أو الاقتصادية وإنما هدف مسجل في مرمى أثناء مباراة لكرة القدم)، أو أن يغلق اجتماع لمجلس الوزراء لانشغال الرئيس بمتابعة مباراة هامة؛ وإنما لأن الرؤساء لا يفعلون ذلك فقط لأنهم يحبون الكرة، أو فريقهم القومي، وإنما لأن الحالة الوطنية للبلاد قد باتت متوقفة عليها، على الأقل لبضعة أسابيع بعدها يعود الحال إلى ما كان عليه كما يعرف الجميع.

وإذا عرفت أن إيرادات التغطية الإعلامية لمباريات كأس العالم في كرة القدم في جنوب أفريقيا قد بلغت ثلاثة مليارات من الدولارات، مقارنة بمبلغ 2.2 مليار دولار في الدورة السابقة لأصبح لدينا ارتفاع خرافي في قيمة سلعة المباريات تصل إلى 36%؛ وما عليك بعد ذلك إلا أن تحسب الحسبة لكي تعرف ما سيكون عليه الحال بعد عقد من السنوات. الرقم هنا ليس مالا فقط، ولكنه مقياس للاهتمام العالمي العام، فالارتفاع في الإنفاق الإعلامي وحده لا يعكس اهتمام الإعلام بسلعة رائجة، وإنما معه اهتمام مواطنين يشاهدون، وحزمة كبيرة للغاية من اللاعبين والمدربين والمدلكين والأطباء تبلغ قيمتهم مليارات أخرى من الدولارات.

وحتى وقت كتابة هذا المقال لم يكن معروفا بعد الفائز بكأس العالم، ولن يكون معروفا أيضا ساعة النشر، ومن يفوز على أي حال ليس مهما للغاية بعد أن خرجت فرق هامة مثل إنجلترا والبرازيل والبرتغال اعتادت تقديم كرة ممتعة. ولكن كل ذلك لا يهم عالم السياسة، وما يهمه ثلاثة أشياء ذات صبغة تاريخية تؤثر في الحركة الإنسانية نحو المستقبل بأشكال كثيرة. أولها أن العولمة ماضية رغم كل شيء، وهي ظهرت عندما دانت البطولة أخيرا إلى دولة أفريقية لأول مرة بعد أن كانت البطولة محتكرة لعقود طويلة لدول أوروبا والأميركتين، ثم دخلت آسيا على الخط، وبقيت أفريقيا لكي تكتمل الحلقة العالمية. ولكن الجغرافيا لم تكن وحدها هي التي ظهرت وإنما الألوان السوداء، والموسيقى والثقافة السمراء، لقارة بأكملها، كلها احتلت شاشات العالم لمدة شهر كامل.

وثانيها أن التكنولوجيا وصلت إلى آفاق لم تصل إليها من قبل، وكل ذلك ليس في ما يخص نقل المباريات فقط، وإنما دخل أيضا في شكل حجم الكرة، وملابس اللاعبين، واتصالات الحكام، وظهور نوع من الملاعب الذكية التي ينتظر لها مستقبل اللعبة ليحافظ على دقتها ونزاهتها بعد أن باتت حركة الكرة واللاعبين عصية على القدرة الإنسانية للحكم ومساعديه. المسألة هكذا صارت فلسفية، ولم يكن بعيدا عن التاريخ تخوف بلاتر رئيس «الفيفا» من فقدان كرة القدم لإنسانيتها. ولكن ذلك هو ما حدث في ألعاب كثيرة من قبل للحفاظ على نزاهة المنافسة، كما حدث في أمور الحياة نفسها حينما فقدت حميمية الاتصال الإنساني وحل محلها الاتصال التكنولوجي. وعلى أي الأحوال فإن إدخال الكثير من المجسات أو القرون الاستشعارية إلى الملاعب لمعرفة مكان الكرة أو اللاعبين ليس وحده هو التطور الجديد، ولكن بدايات التجريب لتكنولوجيا الهيلوغرام التي سوف تجعل من الممكن استنساخ مجسمات اللاعبين في كل المباريات للعب المباريات المختلفة في أماكن مختلفة في نفس الوقت. وقيل إن الصين سوف تبدأ التجريب بأن تلعب مباراة واحدة في 300 ملعب في نفس اللحظة. لقد حدث ذلك من قبل أثناء الانتخابات الرئاسية الأميركية الأخيرة التي فاز فيها باراك أوباما حينما كان بقدرة قناة «سي إن إن» أن تستحضر واحدا من محرريها مجسدا إلى الاستوديو لمناقشته في واحد من تقاريره.

ولكن ما يثير التأمل حقا، من الناحية السياسية والفكرية، هذا الغرام العالمي المفاجئ بتحليل المباريات. لقد عرف جيلنا وصف المباريات والتعليق عليها من خلال الإذاعة، وكان المذيع وقتها يطلب منك وضع صورة للملعب مقسمة إلى مربعات، وهو من ناحيته في الملعب سوف يوفر للمستمع وصف ما يجري في كل مربع، فيكون لديك صورة تقريبية لمباراة لا تشاهدها مباشرة. وكان ذلك ممتعا حينما كان الكابتن محمد لطيف هو الذي يذيع المباراة؛ وعندما جاء التلفزيون إلى القاهرة لم يكن شكل الرجل - رحمه الله - يضيف بعدا جماليا، ولكنه ظل ممتعا على أي حال. وبعد ذلك تغيرت أحوال كثيرة، ولكن لم يكن فيها ما هو جوهري حتى بعد أن صار التلفزيون ملونا، ولكن الاستوديو التحليلي كان إضافة تاريخية لأنه جرى فصل وظيفة المحلل عن وظيفة واصف المباراة ومعلقها المباشر. والمهم هو الدرس الذي تقدمه هذه الاستوديوهات التحليلية في التعامل مع قضايا معقدة للغاية من أول أحوال اللاعبين وحتى مراجعة خطط المدربين.

وللحق فإن كل ذلك يجري بموضوعية كاملة، وعلى الرغم من تعدد الآراء، فإن المؤكد أن هناك لغة مشتركة تحكم حركة الآراء وتوجهاتها فلا يحدث شطط أو تجاوز، وينتهي الأمر في النهاية بابتسامات من نوع أو آخر ويذهب الجميع لكي يحصلوا على أموال طائلة. ولكن الإنفاق ليس هو القضية، وإنما هي التساؤل عما إذا كان ممكنا تطبيق هذه المناهج الإنسانية الجديدة في حل المشكلات والصراعات الإنسانية الكبرى. أعرف أن المسألة كلها مباريات في كرة القدم، ولكن المباريات والمنافسات الرياضية كلها بما فيها الألعاب الأولمبية وجدت أصلا لكي تحل محل الصراعات بين المدن الإغريقية، فلماذا لا يكون واحد من نتائجها - الاستوديو التحليلي – ملهما لحل الصراعات الإنسانية؟

فهل يمكن وضع وفد من حماس مع آخر من السلطة الفلسطينية في استوديو تحليلي على شاشة التلفزيون وفي مواجهة الجمهور لكي تحل مشكلة الوحدة الفلسطينية؟ فالشائع دائما في فن وعلم التفاوض أن المفاوضات ينبغي أن تكون سرية، لأن العلنية تؤدي إلى المزايدة، ولكن التفاوض العلني الذي يسبقه تحليل ذكي للأوضاع، كما هو الحال في الاستوديوهات التحليلية لكرة القدم المعقدة هي الأخرى، سوف يجعل الجمهور حكما، لأنه في حالة تحول المفاوضات إلى حالة هزلية فإنه سوف ينتقل إلى قناة أخرى فورا. هنا توجد الفضيلة الأساسية للاستوديو التحليلي، فالشرط الأساسي له هو أن يُبقي المشاهد ملصقا أمام القناة التلفزيونية ولا ينتقل لغيرها؛ أما الفضائل الأخرى فهي معروفة، حيث يمتنع إطلاق الرصاص على المشاركين، كما أن استخدام الأيدي ليس ممكنا في تحليل المباراة، وفي كل التجارب التي شاهدناها لم نجد مجالا واحدا للعنف اللفظي والاتهامات، لأن الكل يركز على القضية المطروحة وحدها. تعالوا نجرب هذه الطريقة الجديدة فربما تنفع فيما فشلت فيه كل التجارب الأخرى!!.