هل تبدلت مواقف الشيخ الرئيس!

TT

أحيت طهران السبت الماضي الذكرى الثانية والعشرين لإسقاط البحرية الأميركية لطائرة الركاب المدنية الإيرانية في مياه الخليج (1988)، التي أدت إلى مقتل 290 راكبا، ورغم أن القضية قد تم تسويتها عبر محكمة العدل الدولية في عام 1996، وتعويض عائلات الضحايا، فإن الحكومة الإيرانية لا تزال تحيي ذكرى الحادثة كل عام بحجة أن الأميركيين - وإن قدموا اعتذارا لعائلات الضحايا - مطالبون بالاعتذار للحكومة الإيرانية، وهو مطلب لا يبدو ممكنا في المدى القريب.

تزامنت الذكرى الإيرانية مع توقيع الرئيس الأميركي، باراك أوباما، على مشروع عقوبات أميركي جديد يعد الأبرز منذ تطبيق العقوبات الأميركية بحق نظام الجمهورية الإسلامية، ويأتي بعد أسابيع من المصادقة على حزمة العقوبات الرابعة من قبل مجلس الأمن. كانت ردة الفعل في طهران على العقوبات الأميركية شديدة، إذ استغل الرئيس محمود أحمدي نجاد الذكرى ليحذر الولايات المتحدة والدول المتعاونة معها من «استيقاظ الأسد النائم»، في تكرار للتهديدات الإيرانية بالرد على العقوبات الدولية، لا سيما تلك التي تتعلق بحق تفتيش السفن والشاحنات المتجهة لإيران. تصريحات مماثلة أصدرها مكتب المرشد الأعلى، ووزارة الخارجية، وكذلك قادة الحرس الثوري.

بيد أن اللافت هو تصريح الرئيس الأسبق الشيخ هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس تشخيص مصلحة النظام، الذي هاجم به إدارة الرئيس أوباما قائلا: «إنه عمل ترهيبي فاضح تجاه إيران عندما يعلن الرئيس الأميركي رسميا أنهم (الأميركيين) يستهدفون صميم البرنامج النووي الإيراني».

لا شك أن العقوبات الأميركية الجديدة مهمة لأنها ترمي إلى فرض قيود على تزود الجمهورية الإسلامية بالوقود من قبل الشركات العالمية، وخصوصا أن إيران لا تملك حاليا قدرة كافية على تكرير النفط، ولكن تصريحات رفسنجاني الداعمة لموقف حكومة الرئيس نجاد هي الأخرى ذات دلالة خاصة.

الشيخ الرئيس هو بمثابة الأب الروحي للمعارضة الإيرانية، التي ترى عدم شرعية فوز الرئيس نجاد بالولاية الثانية في انتخابات يونيو 2009، والتصريحات الأخيرة ربما تفسر كدعم لرئيس كان الشيخ يعتبره - في موقف داعم لرموز المعارضة - غير مستحق للرئاسة، وقد أثارت هذه التصريحات جدلا بين المراقبين الذين ما كانوا يتوقعون أن يتحول الشيخ الرئيس إلى مدافع عن مواقف النظام، وخصوصا أنه حذر مرارا من طريقة إدارة الرئيس نجاد للملف النووي الإيراني، وأنه وأفراد أسرته كانوا مستهدفين من قِبل الرئيس نجاد وتياره الداعم من المحافظين الجدد. فيا ترى هل تبدلت مواقف الشيخ الرئيس؟

صحيح، أن رفسنجاني كان ولا يزال أبرز المعارضين لنجاد، وأنه انتصر لفريق موسوي، وكروبي، وخاتمي، ولكن علينا أن نتذكر أن شيخ البراغماتية داخل النظام كان دائما شديد الذكاء والواقعية حينما كان الأمر يتعلق بتهديدات تطال النظام الجمهوري الإسلامي، وقد أثبت مرارا قدرته على الالتفاف على معارضيه، وإثبات أهميته حين يتعلق الأمر باستقرار نظام الثورة والملالي في إيران. خلال السنوات الخمس الماضية سعى المحافظون الجدد إلى تقليص نفوذ رفسنجاني وعائلته، الذين تحولوا مع الوقت إلى مؤسسة سياسية واقتصادية كبيرة داخل إيران، ولكن الشيخ الرئيس كان دائما قادرا على استيعاب الضربات والالتفاف على خصومه. فبعد أن فشلت محاولته للعودة إلى الرئاسة في انتخابات 2005، تمكن من العودة عبر بوابة مجلس خبراء القيادة بحيث أصبح رئيسا للمجلس المنوط به اختيار أو عزل المرشد، وقد سجل انتصارا على خصمه الرئيس نجاد حينما أمر المرشد بأن يشرف مجلس تشخيص مصلحة النظام على برنامج السياسة الخارجية الذي يتبعه الرئيس، وقد اعتبرت تلك بادرة من المرشد لترضية الشيخ رفسنجاني بعد الملاحقات القضائية التي قادها مؤيدوا الرئيس نجاد ضد أبناء رفسنجاني.

استمرت الخصومة بين الرئيس والشيخ، وكان من الواضح أن مكتب المرشد استغل التوتر بين الطرفين، فمرة ينتصر لهذا ومرة ينتصر للآخر، وقد كان لافتا دعم المرشد لرفسنجاني خلال انتخابات رئاسة مجلس خبراء القيادة في مارس 2009. بيد أن العلاقات ساءت حين دعم المرشد إعادة ترشيح نجاد، بينما دعم رفسنجاني ترشيح مير حسين موسوي، وفي أعقاب الأزمة السياسية التي قسمت النخبة السياسية وأبرزت دور الحرس الثوري في إدارة الشأن الداخلي، حدثت قطيعة ما بين المرشد والشيخ الرئيس. رفسنجاني الذي استشعر الخطر رحل إلى قم حيث الحوزة الدينية، وقد فُسر هذا الانتقال على أنه لجوء إلى الملالي في وجه استقواء المرشد بالعسكر. خلال الوقت القصير الذي قضاه في قم استطاع الشيخ أن يؤثر في صفوف طلبة العلم وكبار الأساتذة، بحيث بات مصدرا كبيرا للقلق بالنسبة للمرشد الأعلى.

مؤخرا، حاول الرئيس نجاد تمرير قرار عبر مجلس الشورى يقضي بتحويل «الجامعة الحرة» في إيران إلى مسؤولية وزارة التعليم العالي التابعة لحكومته. هذه الجامعة هي هيئة عليا لعدة جامعات ومعاهد علمية داخل إيران، ولها فروع في الخارج، والشيخ رفسنجاني هو أبرز مؤسسيها، ورئيس مجلس أمنائها، وتعتبر إحدى أهم أدواته الداخلية، ومصدرا هاما - كذلك - للدخل المادي لمؤسساته الخيرية. كانت الجامعة وفروعها - ولا تزال - مصدر إزعاج للمحافظين الجدد. فهي تضم في مجلس أمنائها عددا من أبرز معارضي الرئيس نجاد، ومنهم موسوي، المرشح الرئاسي البارز، وقد لعب أساتذة وطلاب هذه الجامعة، وكثير منهم ينتمي للطبقة الوسطى العالية من أبناء عائلات دينية، الدور الرئيسي في دعم الموقف البراغماتي المعتدل داخل النظام الإيراني. وقد مثّل طلابها العنصر الأكبر في المظاهرات التي خرجت للاعتراض على نتائج الانتخابات، والتنديد بالتدخل السافر للحرس الثوري والباسيج في قمع المعارضين.

أجهضت محاولة الرئيس نجاد والمحافظين السيطرة على الجامعة بعد تدخل المرشد الأعلى، الذي خشي من أن تتحول القضية إلى مجلس تشخيص مصلحة النظام الذي ما زال رفسنجاني يترأسه رغم محاولات الضغط عليه بالتنحي. ولهذا التف رفسنجاني على الحكومة عبر دعم النظام بشكل غير مباشر في قضية العقوبات.

رفسنجاني، بحق هو واحد من دهاة الساسة في الشرق الأوسط، فقد كان ثوريا حينما كان الزمن ثوريا، وبراغماتيا يؤمن بحرية التجارة حين كان الزمن زمن إعادة الإعمار بعد الحرب. استعاد علاقات إيران بالخليج وأوروبا بحثا عن الأسواق. إن من المثير أن يكون الشيخ الرئيس الذي كان عدو الطلبة في مظاهرات 1999 بوصفه كبير المحافظين هو اليوم زعيمهم الداعي إلى الحرية والإصلاح.

قبل سنوات سأل مايك والاس، الصحافي الأميركي، رفسنجاني ما إذا كانت إيران بدلت موقفها بخصوص امتلاك السلاح النووي، ثم ألح عليه بأن يحلف بالله لتأكيد كلامه، فرد الشيخ: «لا يضطر للحلف بالله إلا الكذَبة». بالنسبة للشيخ الرئيس فإن مواقفه ثابتة أما الزمن فيتبدل.