وتقدّرون وتقدّر الأقدار

TT

أعشق الماء كثيرا، وأعتقد أن السبب يكمن في كوني مخلوقا «برمائيا» شبه مشوّه.

وأصطفي من الماء تحديدا ماء المطر، خصوصا عندما يهطل على رأسي في صحراء ممتلئة بالعطش، فالمطر لا يستهويني أبدا في شمال الكرة الأرضية، ولا في المناطق الاستوائية، وأكبر دلالة أنني لا أذهب إلى هناك إلا وأنا متسلح بـ«الأمبريللا»، أي المظلة.

ولا أظن أن هناك رائحة في الدنيا كلها أروع من رائحة تراب الأرض الخلاء العطشى، عند أول زخة من هطول المطر. يا الله لو أن أحدا شم عبقها دون أن يسكر، لا شك أنني عندها لا أعتبره إنسانا، ولا يضاهي ذلك العبق الفاتن غير رائحة الخبز وهو خارج لتوّه من التنّور.

أرجوكم لا تقولوا لي: شانيل، ولا باكو روبان، ولا إيف سان لوران، ولا جرلان، ولا ارمز، ولا حتى العود والمسك والورد والعنبر.

ولا أكذب عليكم أنني بعشقي هذا قد بدأت أشك في نفسي أحيانا، فهل أنا «ملحوس»؟! هل أنا إنسان غير طبيعي؟! أو بمعنى أكثر لطفا: هل أنا إنسان غير سوي؟! هل صلاحيتي منتهية وأنا لا أدري؟!

فلماذا لا تستهويني رائحة الحطب المحترق بالنار مثلا؟! لماذا لا أجزع منه عندما يدخل الدخان في «خياشيمي»، وتنزل الدموع من عيوني؟!

لماذا أصعر خدّي طائعا للتراب الذي لم تدُس عليه يوما قدم إنسان؟! لماذا أعرّض وجهي وصدري لهبوب الرياح والعواصف والغبار دون أن أهرب أو أهتز أو أتلفّح؟!

لماذا عندما يومض البرق لا أغمض عيني؟!

لماذا عندما يهدر الرعد وتقصف الصواعق لا أصم أذني؟!

لماذا عندما يدلهم الليل تطلع عفاريتي؟!

ولماذا عندما يجتاحني الحزن لا أبكي على نفسي وإنما أبكي على غيري؟!

إنني دون شك حالة مستعصية لا تحتاج إلى عملية جراحية، ولكنها تحتاج فعلا إلى عملية تفجيرية.

ولكي أخفف اللعب قليلا وأستحي على حالي، ولا أتعبكم بالحديث عن نفسي «التعبانة اللوّامة» أصلا، وجدت أنه من المستحسن أن أعود بكم مرة ثانية للماء والمطر، فذلك ألطف وأريح.

فحسب الوقائع المؤكدة أن بريطانيا عندما أرادت أن تحتفل بمناسبة تتويج الملكة «إليزابيث الثانية» على العرش في سنة 1952، جندت جهابذة علماء «الطقس» من أجل اختيار أفضل الأيام لإقامة ذلك الاحتفال العظيم، وبعد البحث والتقصي والإحصائيات خلال قرن كامل سابق، وجدوا أن الثاني من يونيو (حزيران) هو اليوم الأكثر صحوا من أيام السنة، لهذا استقر رأيهم على أن يكون الاحتفال في ذلك اليوم، وفعلا اكتملت الزينات، وتقاطر الضيوف من أنحاء العالم، وبدأ الاحتفال الصاخب العظيم، وما هي إلا دقائق من بدايته، إلا والسماء تنشق عليهم وكأنها تقول لهم «خذوها»، وهطلت عليهم أمطار وفيضانات لم تعرف البلاد مثيلا لها من قبل، وقد انطبقت عليهم مقولة: «وتقدّرون وتقدّر الأقدار».

سبحان الله العظيم.

[email protected]