حياة جديدة في نظرية قديمة

TT

ظهرت في أواخر القرن التاسع عشر نظريات عنصرية كثيرة صبت في النازية والفاشية والأبارتايد وأدت إلى مأساة المحرقة. من تلك النظريات مدرسة اليوجنيكس، أو الصحة الجينية. الفكرة هي أن البشرية مجموعة من العروق والعناصر، منها الفائق كالعرق الآري ومنها الواطئ كالعرق السامي. وعلى العرق الفائق أن يحافظ على نقاء جيناته من التلوث بجينات الجنس الأحط ويسعى لتطويرها وتحسينها باختيار أصحاب المواهب والأقوياء. الدم النقي سبيل الشعب للإبداع والازدهار. ترى الفاشيين والعنصريين دائما ضد الزواج المختلط.

كما قلت، أدت هذه النظرية إلى المحرقة النازية والتمييز العنصري في أفريقيا وأصبحت من أبغض النظريات الاجتماعية. ومع ذلك فقد أخذت في السنوات الأخيرة أرى شيئا وراءها. فمن الملاحظ أن معظم الحضارات والإنجازات الكبيرة قامت بها شعوب تميزت بنقاء العرق في فجر تاريخها. هذا ما جرى في عهد الفراعنة وبابل وسومر وأثينا وروما. وهكذا كان الأمر مع الإنجليز. والآن نرى مثل ذلك في اليابان.

وعلى نقيض ذلك، نلاحظ ما يجري في العراق المعاصر. فما من شعب اختلطت دماؤه وجيناته كالشعب العراقي. فبسبب تاريخه الطويل وخيراته وانبساط أرضه وانفتاح حدوده ومركزه الاستراتيجي في طريق شتى الفاتحين، خضع لغزو شتى الأقوام وهجرة الكثير من الأجناس، ساميين وعربا وإغريقا وروما وفرسا واتراكا وسلاجقة ومغولا وعبيدا من أفريقيا وأرمنيين. تلاحظ كل ذلك في وجوه العراقيين، فيهم الأشقر والأبيض والأسود والأسمر، أنوف عربية وعيون مغولية وخدود عجم فارسية، وهات ما عندك.

هل تعود كل هذه الفوضى والفساد والخيانات، لاختلاط دم العراقيين؟ هذا ما يقوله العنصريون. ولكن لي رأيا آخر، لا يقوم على اختلاط الدم وإنما على اختلاط الولاء. تسمع عن عراقي يذهب لعقد زواجه في اسطنبول لأنه يشعر بانتماء روحي لتركيا. تسمع عن آخر يذهب لطهران لمعالجة مرضه. كثيرا ما أشعر بهوية العائلة العراقية عندما يدعونني لبيتهم. تجد السبزي والأطباق الإيرانية في هذا البيت ودولمة وطبخا تركيا في البيت الآخر. وكباب سليمانية وطبق برغل في بيت كردي. يتكون العراق من عشرات المذاهب وعشرات القوميات. ووراء هذا التعدد، يوجد تعدد في الذهنية والتربية والمشاعر. وكلها تلعب دورها في تشويش الهوية الوطنية والإخلاص للوحدة الوطنية والواجب نحو الوطن.

التعددية تغني الحضارة والفنون والأدب والفكر بتعدد مصادرها وألوانها. هكذا ازدهرت الحضارة العباسية في بغداد. وهو في الواقع ما يميز العراقيين الآن بغزارة ثقافتهم وإبداعاتهم في الفنون والشعر والفكر. ولكن هذه التعددية تنخر وتأكل في الوحدة الوطنية والالتزام بالوطن، وهو أيضا ما حصل للحضارة العباسية في الأخير عندما انهارت الدولة وسقطت لقمة سائغة في حلق الأجنبي دون أن يتقدم أي أحد للدفاع عنها.