الرهان على أردوغان.. ما بين حسابات الحقل وحسابات البيدر!

TT

«الغريق يتمسك بزبد البحر».. فهذا ما بقي يفعله بعض العرب منذ بدايات صراع الشرق الأوسط والقضية الفلسطينية. وإذا كان الرهان في السابق على الاتحاد السوفياتي، رغم أن الاتحاد السوفياتي كان من أول الدول التي هرعت للاعتراف بإسرائيل فور إعلانها، وعلى «هاجوج وماجوج» اللذين سيأتيان من الشرق البعيد لإلقاء اليهود في البحر، فإنه أصبح على الظواهر النزقة التي ارتفعت سيقانها كنبات شيطاني على مجرى حركة التاريخ العربي والإسلامي المعاصر، أن تستفيد من تجارب هذا التاريخ وأن تكف عن مراهناتها العبثية على كل طارئ وجديد.

بعد هزيمة يونيو (حزيران) مباشرة جاء إلى المنطقة ثالث أثافي قدر القيادة السوفياتية نيكولاي بودغورني. ولأن الناس - وبخاصة في عواصم «الأنظمة الثورية» - كان قد ذهب بهم الإحباط حتى ذروته، فقد زحفوا إلى مطار دمشق، وكان يومها لا يزال في منطقة «المزة»، ليستقبلوا هذا الرجل الذي اعتقدوا أنه جاء «مخلصا»، بالهتافات الصاخبة. لكن ما لبث هؤلاء أن اكتشفوا كما اكتشف قادتهم صحة ذلك المثل الشعبي القائل: «ما حك جلدك غير ظفرك». فالقائد السوفياتي الذي كان قد بلغ به الكبر عتيا جاء ليشاركهم التحسر والنواح وليدعوهم إلى التسليم بمشيئة الله وقدره وليس ليشهر سيفه ويقودهم إلى القضاء على دولة إسرائيل الصهيونية!

كانت هناك عشية ذلك «الحزيران»، الذي كشف النقاب عن مثالب وعيوب الأنظمة الثورية العربية، حكاية «الظافر والقاهر» التي وعد أصحابها بأنها ستدك إسرائيل دكا وأنها لن تبقي فيها حجرا على حجر، وثبت عندما أزفت لحظة الحقيقة أنها كانت مجرد كذبة كبرى. وهذا ما حصل بالنسبة إلى ما لوح به صدام حسين وقال إنه سيحرق به نصف إسرائيل فصدقه المعجبون وصفقوا له حتى احمرت أكفهم وهتفوا بحياة «مبعوث العناية الإلهية» الذي لم يجد الزمان بمثله حتى بحت حناجرهم!

عشية حرب عام 2006 على لبنان أطلق «الصداحون» لأنفسهم البشرى بأن صواريخ حزب الله (الإيرانية) ستمزق إسرائيل وأن لحظة «الفرج» قد اقتربت. وهنا تكمن المأساة في أن هؤلاء ما زالوا يواصلون رهانهم على أن «هاجوج وماجوج» قادمان وأن عمامة الولي الفقيه سوف تظلل فلسطين قريبا وأن محمود أحمدي نجاد سوف يحقق وعد إزالة الدولة الصهيونية الغاشمة وسوف يأتي من الشرق فاتحا ليحرر قبة الصخرة المشرفة وليقيم الصلاة في المسجد الأقصى.

حتى عندما أعلن خالد مشعل من مأمنه في دمشق أن حركة «حماس» قد حققت التوازن الاستراتيجي مع إسرائيل، فقد صدقه هؤلاء وبقوا يتغنون بصواريخ «القسام» ويبشرون الشعب الفلسطيني المسكين، الذي مرت تحت جسره - خلال نصف قرن وأكثر - مياه كثيرة، إلى أن جاءت حرب غزة المدمرة وثبت أن هذه الصواريخ منذ بدايتها وحتى نهايتها كانت كذبة كبرى وأن الذين وقفوا وراء ظاهرتها هم تجار «الخردة الحديدية» وتجار الأنفاق من كبار «المجاهدين» الذين يواصلون التمسك بالحصار لتبقى هذه الأنفاق سالكة وآمنة.

ثم، وقبل أن يتم اللقاء الأخير بين وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو ووزير التجارة الإسرائيلي بنيامين بن أليعازر، ذهب المراهنون دائما على مخلّص قادم من الغيب إلى حد التبشير بأن تركيا الأردوغانية ستجدد تركيا العثمانية وأن القضاء على إسرائيل سيكون على أيدي هؤلاء من أحفاد السلطان عبد الحميد الثاني، وذلك على الرغم من أن رجب طيب أردوغان لم يذهب - بعد هجوم الإسرائيليين البربري على سفينة «مرمرة» التركية وقتل ثمانية من ركابها - إلى أبعد ما يعتبر عاديا بين الدول عندما تخطئ واحدة منها على الأخرى، وهو شرط «الاعتذار» لتصحيح كل ما أصاب العلاقات الدبلوماسية من ترد وانهيار.

لم يدرك، الذين شطح خيالهم بعيدا واعتقدوا أن جريمة الهجوم الإسرائيلي على سفينة «مرمرة» سوف تؤدي إلى ما يقترب من المواجهة العسكرية، أن لتركيا مصالح مهمة عليها أن تراعيها مع إسرائيل نفسها ومع الاتحاد الأوروبي ومع الولايات المتحدة، وأن هناك معادلة داخلية تركية لا يملك أردوغان إلا مراعاتها، وهو بصدد الرد على ما قام به الإسرائيليون. فجنرالات الجيش التركي ما زالوا يشكلون رقما رئيسيا في معادلة الحكم في أنقرة وهؤلاء لهم حسابات إقليمية ودولية غير حسابات حزب العدالة والتنمية.

وهنا، فإن ما تجب الإشارة إليه هو أن من مصلحة جنرالات الجيش التركي الذين يعتبرون أنفسهم الحصن المنيع لعلمانية مصطفى كمال (أتاتورك)، أن تتفاقم العمليات العسكرية التي يقوم بها حزب العمال الكردستاني التركي التي اتخذت طابعا أكثر تأثيرا وخطورة بعد جريمة الهجوم على «مرمرة»، سواء أكانت إسرائيل وراء هذا التصعيد أم لا، ليعودوا بالبلاد إلى زمن الأحكام العرفية وليستعيدوا ما سلبه منهم أردوغان وزملاؤه في حزب العدالة والتنمية.

وبالطبع، لأن أردوغان وعبد الله غل وأحمد داود أوغلو يعرفون هذه الحقيقة ولأنهم قبل غيرهم متأكدون من أن هناك سعيا فعليا من قبل الأحزاب القومية الأتاتوركية - بدعم من بعض كبار جنرالات الجيش، العاملين والمتقاعدين - لاستغلال تصعيد حزب العمال الكردستاني التركي لعملياته العسكرية على خلفية الهجوم الإسرائيلي على سفينة «مرمرة»، للعودة مرة أخرى إلى عهد الأحكام العرفية، فإنهم بادروا إلى السعي لتهدئة الأمور مع الإسرائيليين وجعلوا عودة العلاقات التركية - الإسرائيلية مرهونة بمجرد تقديم إسرائيل اعتذارا رسميا عما فعله جنودها بالنسبة إلى «أسطول الحرية» وقتل ثمانية من المواطنين الأتراك من ركاب سفينة «مرمرة».

والظاهر أن أردوغان وزملاءه ورغم التصعيد الظاهري على خلفية رفض بنيامين نتنياهو تقديم أي اعتذار رسمي عما حصل، يميلون إلى لفلفة هذه المسألة مع مواصلة إبداء بعض التشدد من أجل الاستهلاك الداخلي لامتصاص غضبة الشارع التركي، والدليل أنهم استبدلوا بشروطهم السابقة ما سموه «خيارات» على الإسرائيليين أن يأخذوا بواحد منها، أي إما الاعتذار وإما الالتزام بما سيصدر عن لجنة التحقيقات المشكلة التي هي، كما هو معروف، لجنة إسرائيلية! وهكذا فإن المؤشرات تدل على أن هناك حلا قريبا لهذا الإشكال، مما يعني أن حسابات الحقل بالنسبة إلى بعض العرب ستأتي مغايرة لحسابات البيدر، فتركيا لها حساباتها الداخلية والإقليمية والدولية المغايرة لحسابات هؤلاء العرب الذين ينظرون إلى أمور هذه المنطقة من زاوية غير الزاوية التي ينظر منها الأتراك.