رحيل فارس التنوير العربي

TT

خسرت الساحة الثقافية العربية الإسلامية أحد كبار مناضليها ومجاهديها بالغياب المفاجئ والمفجع والمبكر لنصر حامد أبو زيد. لقد كان وجوده ضروريا لتحريك الجمود الفكري وضخ الحيوية في شرايين حياتنا الفكرية المتصلبة منذ قرون بسبب التكرار والاجترار العقيم. ومعلوم أنه مخترع مصطلح تصلب الفكر الإسلامي. وكان يقصد به أن هذا الفكر فقد حيويته وإبداعه بعد المعتزلة وموت ابن رشد عام 1198: أي قبل ثمانمائة سنة ونيف. هل من قبيل المصادفة أن يكون قد تسلم منصب كرسي ابن رشد في جامعة أوترخت بهولندا لسنوات كثيرة؟ كنا نتمنى فقط لو أن هذا الكرسي الرفيع والمشرّف كان في إحدى الجامعات العربية لا الأوروبية. ولكن، ماذا نفعل إذا كانت حرية الفكر محصورة - إن لم نقل ممنوعة - في معظم بلداننا وجامعاتنا؟ هجرة الأدمغة في مثل هذه الحالة أمر محتوم بقدر ما هو مؤلم. فما معنى أن تفقد بلداننا أدمغتها وهي في أمسّ الحاجة إليها؟ وماذا سيتبقى فيها؟ كارثة!

لقد أشعل نصر حامد أبو زيد الدنيا عندما قال بأن القرآن الكريم نص تاريخي أو منتج تاريخي. ولكنهم نسوا عندما اقتطعوا هذا المصطلح من سياقه، إن الرجل لا ينفي إطلاقا ألوهية القرآن ولا ينقض الوحي. كل ما أراد قوله هو أن معانيه العامة الجوهرية من أخلاقية وروحانية ومثالية هي ذات أصل إلهي من دون شك. ولكن ألفاظه مكتوبة بحروف لغة بشرية هي هنا: اللغة العربية. وبالتالي، فيحق لنا أن نطبق عليه مناهج التأويل الحديثة لكي نفهمه على حقيقته ولكي نفرز ما هو تاريخي مرتبط بظروف عصره، عما هو متعالٍ رباني يخترق العصور والأزمان. قيم الحق والعدل والخير التي تملأ القرآن هي قيم كونية لا تناقش، ولكن تطبيقاتها تختلف من عصر إلى عصر لكي تتلاءم مع المستجدات والتطورات التي تطرأ بالضرورة على كل مجتمع بشري.

كان المفكر الكبير يعتقد أن حركة إصلاح الفكر الإسلامي قد وصلت إلى طريق مسدود.. لماذا؟ لأنه ما دام القرآن بمعزل عن النقاش، فليس هناك من مجال للخروج من المأزق الذي نتخبط فيه حاليا أمام أنظار العالم كله. من المعلوم أن فقهاء القرون الوسطى اختزلوا الإسلام إلى جملة من الأحكام الفقهية التي اعتبرت نهائية وصالحة لكل زمان ومكان. ثم جاء الإصلاحيون في القرن التاسع عشر من أمثال محمد عبده وآخرين وتحدوا سلطة هذه التشريعات والفتاوى القديمة وطالبوا بالاجتهاد في فهم الكتاب والسنة لكي تصبح هذه الأحكام أكثر توافقا مع متطلبات العصر الحديث الذي نعيش فيه. من هنا الفتاوى التحديثية الجريئة لعبده.

ولكن أبو زيد يعتقد أن الإصلاحيين فشلوا في زحزحة الصخرة عن مكانها، لأنهم اكتفوا بنقد بعض فتاوى الفقهاء القدامى ولم يتجرأوا على مواجهة النص المؤسس ذاته. لقد تعاملوا مع القرآن بطريقة براغماتية، إن لم نقل انتهازية. فهم يستشهدون فقط بالآيات التي تمشي في اتجاه العصر كآية «لا إكراه في الدين» وسواها، ويغضون الطرف عن الآيات الأخرى. وهنا يقول أبو زيد بكل صراحة وجرأة بأن القرآن الكريم يحتوي على بعض الآيات التي تطرح مشكلة إذا ما أخذناها بشكل حرفي جامد: أي التي لا تتناسب مع القيم الديمقراطية الحديثة وحقوق الإنسان كإجازة الرق مثلا أو فرض الجزية على غير المسلمين أو العقوبات البدنية أو وضع المرأة، حيث إن «للذكر مثل حظ الأنثيين» أو شهادة رجل بامرأتين.. إلخ. فما العمل؟

وعلى عكس ما أشيع عن هذا المفكر الكبير، فإنه لم يقصد بذلك النيل من القرآن وهو المسلم المؤمن الورع. والدليل اعترافه بأن هذه الآيات كانت تشكل تقدما بالنسبة إلى عصرها، حيث لم يكن للمرأة أي حق في الإرث قبل الإسلام وحيث كانت توأد حية.. «وإذا الموءودة سئلت. بأي ذنب قتلت». ولكن ينبغي لنا الآن وضعها ضمن سياقها التاريخي وأخذها بروحها لا بحرفيتها، وروحها هو الحق والعدل. ومعلوم أن العدل هو القيمة الكبرى التي تخترق القرآن الكريم من أوله إلى آخره. وبالتالي، فسوف نكون أوفياء له إذا ما خرجنا على المعنى الحرفي المرتبط بظروف عصره إبان القرن السابع الميلادي واعتمدنا المقصد الجوهري: أي الحق والعدل. وهذا يقودنا إلى إعطاء المرأة حق الرجل نفسه في الإرث والمساواة بينها وبينه. وهكذا نكون قد خنا المعنى الحرفي وأخلصنا للمعنى الجوهري، في حين أن التقليديين يخلصون للمعنى الحرفي ويخونون المقصد الجوهري للقرآن الكريم. الشيء نفسه يمكن أن يقال عن العقوبات البدنية من قطع يد السارق أو جلد شارب الخمر أو فرض الجزية على مواطنين كثيرين لمجرد انتمائهم إلى دين آخر.. كلها ينبغي ربطها بسياقها التاريخي وتأويلها على أساس جديد.

عندما سألوه: ولكن الأمر لا يصل بك إلى حد المطالبة بفصل الدين عن الدولة في المجتمعات الإسلامية؟ أجاب: بلى، هذا ما أطالب به بوضوح تام. فالدولة عبارة عن مجموعة من المؤسسات التي تنظم الحياة الاجتماعية. لذا، فالدولة الدينية هي محض هراء. وهي أيضا مصيبة! نحن بحاجة إلى دولة مدنية ذات قوانين إنسانية تنطبق على الجميع ولا تفرق بين هذا وذاك وتشعل الحروب الأهلية والشقاق في المجتمع. ثم يضيف أبو زيد قائلا: «لقد كان للدين دوما بعد روحاني وأخلاقي غاية في القوة والجمال. ولكنه تحول الآن إلى مجموعة من الطقوس ثم بشكل أخص تحول إلى كراهية شرسة للآخر. وهذا الآخر لم يعد فقط القبطي أو المغاير في الدين. وإنما أصبح أيضا المسلم الذي لا يقوم بواجباته الدينية.

تحية إلى نصر حامد أبو زيد الذي أراد نقلنا من مرحلة التدين الغيبي الأسطوري إلى مرحلة الوعي العلمي والإيماني الحديث. تحية إلى صاحب كتاب «التفكير في زمن التكفير». تحية إليه وقد خاض المعركة بالنيابة عنا جميعا. تحية له وقد فارقنا على عجل دون أن يقول وداعا، لأنه أراد بكل حرقة أن يظل معنا، بيننا. وسيبقى.