نصر حامد أبو زيد والتجربة البحثية والأخلاقية

TT

جاءت وفاة الدكتور نصر حامد أبو زيد مفاجئة لكل الذين أحبوه وتابعوا دراساته ونضالاته، لكنهم تابعوا قبل ذلك وبعده تجربته البحثية وتجربته في الهجرة، وما آلت إليه طروحاته وأطروحاته.

وكنت قد تابعت تجربة الأستاذ أبو زيد البحثية منذ دراسته الأولى للدكتوراه عن التفسير القرآني عند المعتزلة. وتواصل معي عام 1992 عندما كنت أصدر مجلة «الاجتهاد»، وأرسل إلي نصه المسمى «نقد الخطاب الديني» فنشرته له بدار «المنتخب العربي» ببيروت عام 1993. ثم نشرت مقالة طويلة عن بحوثه في مجلة «الاجتهاد» كتبها صديقه الدكتور حسن حنفي. وكنت وما زلت مختلفا معه في عدة أمور منهجية، لكنني شأني في ذلك شأن د. جابر عصفور وحنفي وآخرين من زملائه وأصدقائه، كنا مقتنعين بأمرين: جدية البحوث التي يقوم بها في مجال الدراسات القرآنية، والتضامن معه في وجه الطرائق اللاأخلاقية التي جرى التعامل بها معه ووصلت إلى المحاكم بمصر، وإلى تطليق زوجته منه بحجة ردته، واضطرته للهجرة إلى هولندا حيث درّس لعقد ونصف العقد في جامعة ليدن هناك. وقد أصدر الأستاذ أبو زيد عشرات الدراسات في مواضيع شتى، وآخر ما قرأته له يعود لعام 2008، لكنني لا أزال أرى أن أهم دراساته دراسته في «التفسير عند المعتزلة»، ودراسته الأخرى المسماة: «مفهوم النص». مع أن الذين عطلوا ترقيته بالجامعة في النصف الأول من التسعينات ذكروا في تعليل ذلك أو أوردوا نصوصا من سائر كتبه، فالذي أراه أن الهجمة عليه ما كانت في الأساس بسبب مناهجه الدراسية؛ بل لأنه تصدى بآيديولوجيا يسارية للخطاب الديني الأصولي في السوق ووسائل الإعلام. وقد انتهت هذه المسائل والمشاكل منذ أكثر من عقد، إنما ظل التعامل غير العلمي وغير الأخلاقي مع الأستاذ أبو زيد غصة في حلوقنا وأخلادنا ووعينا نحن الذين نحاول منذ ثلاثة عقود تدارك وإنقاذ البقية الباقية من التقاليد الأكاديمية، والبحث العلمي المستقل، يحدونا في ذلك الحرص على عقولنا وعقول طلبتنا، والحرص على ديننا وتاريخنا أن تستولي عليهما الغوغاء، أو يسقطا في مستنقعات الصراع على السلطة في وسائل الإعلام التي صارت قليلة الحرص على حريات التعبير، وكثيرة التطلع للإثارة والتحشيد.

منذ أواسط الثمانينات من القرن الماضي، بدأ الراحل نصر حامد أبو زيد يقول ويكتب إنه يريد قراءة القرآن قراءة أدبية. وذكر في التسعينات المنهج التاريخي باعتباره صالحا لدراسة النص أيضا. وما كان أول القائلين بذلك من العرب والمسلمين. فقد قال بذلك الشيخ أمين الخولي، وتبعه تلميذاه؛ زوجته الدكتورة بنت الشاطئ ومحمد أحمد خلف الله. ولقي خلف الله عنتا، وسحبت شهادته منه بعد أن نشر كتابه عن القصة في القرآن. واحتاطت لذلك بنت الشاطئ (عائشة عبد الرحمن) كثيرا، ونشرت كتابا في المنهج الأدبي، وطبقته على بعض السور، ثم انصرفت عن ذلك وقضت زهاء عقدين في المغرب في مدرسة الحديث الحسنية. أما خلف الله فقد ظل الغضب عارما عليه، لكنه ما تابع دراساته في المنهج الأدبي أو التاريخي في قراءة القرآن، بل انصرف لتأويل النص تأويلا متحررا لمواجهة الأصولية الإسلامية، سواء لجهة علائق الدين بالسياسة وفكرة الدولة وتطبيق الشريعة، أو لجهة التشريع في قضايا المرأة والمسائل المشابهة. وهذا المصير نفسه هو الذي واجهته محاولة نصر حامد أبو زيد للدراسة الأدبية للقرآن. فبعد كتابه: «مفهوم النص»، الذي رسم فيه المنهج الذي يراه لقراءة النص القرآني من الناحية الأدبية بحسب نظرية النص والمفاهيم العربية القديمة والحديثة للدراسات الأسلوبية، ما تابع القيام بالدراسات التطبيقية على المستوى الشامل للقرآن؛ بل طبق المنهج على بعض الآيات والسور بطرائق انتقائية ومن أجل قضايا معينة، أي أنه انتهى إلى ما انتهى إليه محمد أحمد خلف الله من انصراف إلى «تحديث الإسلام»، ومواجهة الأصوليين في سائر القضايا والمسائل ذات الصبغة الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية. بيد أن الدكتور أبو زيد كان أكثر ممن أتوا قبله تملكا للأدوات البحثية في المنهج والمعرفة التراثية. ثم إنه في القضايا التي عالجها اتبع المنهج الأدبي الحديث بالفعل بما يتضمنه من قول بالنص وبناه ومصطلحاته المفاتيح ونظام خطابه ورؤاه للعالم. ورغم الإلحاح الآيديولوجي عليه أو الهم الآيديولوجي الذي أثر في نظرته كثيرا؛ أي هم مواجهة مشكلات الحداثة، وأصاليات الأصوليات، بتأمل آخر للقرآن؛ فإنه ما خضع للأفكار المسبقة، ولا قسر النص على قول ما لا يمكن قوله، ولا خضع للتاريخانيات (بما في ذلك ما يعرف في علوم القرآن بأسباب النزول) المشرذمة للنص أو الدائبة في تصغير رؤيته وشعائريته وانتظامه؛ وذلك على الرغم من عيشه بالغرب، وتعرضه لشواظ العداء للإسلام أو الاستخفاف بمقدساته وفي طليعتها القرآن ونصه وأصوله ورؤاه.

إن الأحرى القول إن ذهاب الأستاذ أبو زيد إلى الغرب، ورؤيته الدؤوبة لما يعتمل تحت السطح من خلط كبير ومتعمد بين العلم والآيديولوجيا والإسلاموفوبيا؛ كل ذلك دفعه للمزيد من الحذر والتحفظ، فما اندفع اندفاعات محمد أركون، ولا تحول إلى أصولي، ولا ظل أسير الجدال مع أصوليي مصر واستهدافاتهم. في هولندا، وفي ألمانيا، والولايات المتحدة، عايش الأستاذ أبو زيد جماعات أكاديمية منصرفة بالفعل لاستقراءات جديدة سواء للقرآن أو للتراث الإسلامي. لكنه شاهد أيضا عصف العواصف في وجه الإسلام والقرآن؛ وبخاصة بعد أحداث عام 2001 فوقف من ذلك كله موقفا واضحا، ليس عصبية لبني قومه - كما قال - بل لأن استخدام النص القرآني في وجه الغرب أو شرذمة النص للانتقام من الأصولية الإرهابية؛ كل ذلك ليس عملا من أعمال العلم أو البحث الأكاديمي. لقد حولت «السلفية الجهادية» الإسلام إلى مشكلة عالمية، وهذه محنة أساءت وسائل الإعلام الغربية استخدامها ليس في وجه العرب والمسلمين وحسب؛ بل وفي وجه الإسلام دينا وحضارة أيضا. وهذا الأمر لا ينبغي أن يدفعنا للتمترس في جبهات الدفاع، ولا للتخلي عن الإصلاح المحرر من السطوة الغربية والأصوليات معا. لكن الإسلاموفوبيا الهائلة بالغرب كله كادت تدفع بالأستاذ أبو زيد بالفعل إلى الجنون، بحيث انصرف في السنوات الأخيرة عن المشاركة في المنتديات غير الأكاديمية. ولشد ما كان يزعجه أن يوضع إلى جانبه على المنبر أناس من المهاجرين من بلدانهم من قاصري الوعي أو العلم نساء ورجالا، لاستخدامهم (واستخدامه) شواهد على الظلم الذي تلحقه الأصوليات (والإسلام!) بالإنسانية!

رأيت الأستاذ أبو زيد للمرة الأخيرة في مكتبة الإسكندرية، وقال لي يومها إنه ماض للتدريس بالجامعة الإسلامية بماليزيا. وأعطيته كتاب: «محمد والقرآن» الذي ترجمته عن الألمانية، فما أعجبه وقلت له: «هذا ذروة ما بلغتْه مدرسة نولدكه الفيلولوجية في قراءة النص القرآني!»، فلاحظ أن التاريخانية الفيلولوجية متخلفة، وتفصفص النصوص ولا تعترف لها بأي بنية.

قرأت لكاتب إيراني رسالة عن الغزالي بعنوان: «الفرار من المدرسة»، وعندما سألني أبو زيد عن دراسات غربية جديدة عن الغزالي حدثته عن دراسة فرنسية، ثم ذكرت «الفرار من المدرسة» باعتبارها دراسة قديمة، لكنها من أفضل ما قرأت عن الإمام، وضحك نصر رحمه الله وقال: ما أحوجنا جميعا للعودة إلى المدرسة التي أخرجنا منها أصوليونا، وتوشك إسلاموفوبيات الأوروبيين أن تكفرنا بها!