زيارة نتنياهو إلى واشنطن

TT

زيارة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الأخيرة لواشنطن أثارت تساؤلات المعلقين؛ خاصة أن الرئيس الأميركي باراك أوباما لم يصفعه دبلوماسيا، بعدم السماح بنشر صورة لقائهما، كما فعل في الزيارة الماضية. هذه المرة حرص المكتب الصحافي للبيت الأبيض على نقل كاميرات البث الحي توصيل الرئيس ضيفه إلى السيارة.

هل أخفت الابتسامات هنا طحن الأسنان غيظا، كلما عجز الطرف الآخر عن تفهم وجهة نظر «منطقية في بساطتها»؟

الرئيس الأميركي يرى في تعنت ضيفه في سياسة بناء المستوطنات موقفا غير منطقي.

فالجنرال ديفيد بترايوس، الذي عاد لتولي رئاسة أركان قوات المساعدة الدولية (وأغلبها أميركي) في أفغانستان، يلح على الإدارة بتسوية النزاع الفلسطيني الإسرائيلي لأن استمراره يساعد المنظمات الإرهابية على ترويج بروباغندا تعرقل من استراتيجية أميركا عالميا.

واشنطن (بنظرة موضوعية محايدة انطلاقا من مصالحها القومية) ترى أن بعضا من مفصليات حكومة نتنياهو - كالاستمرار في بناء مستوطنات الضفة الغربية استفزاز للفلسطينيين يعرقل مهمة رئيسهم محمود عباس في التفاوض الجاد. ومنطقيا ليس في مصلحة إسرائيل على المدى الطويل عرقلة مهمة رئيس فلسطيني ملتزم بتسوية سلمية.

ساسة الائتلاف المكون للحكومة الإسرائيلية - التي تتغير تداوليا بالانتخابات، وهو أمر غير مألوف لعديد من بلدان المنطقة - لا يهتمون بسياسة المدى الطويل بقدر عناصر المدى القصير (كاستطلاعات الرأي لضمان الشعبية حتى الانتخابات القادمة). وهنا تبدل الحذاء إلى القدم الأخرى، حسب المثل الإنجليزي، إذ يبدو نتنياهو «مستغربا» من عدم تفهم الرئيس الأميركي «كسياسي منتخب» يقدر قوة استطلاعات الرأي لمأزقه.

نتنياهو حبيس المزايدة العلنية في التشدد الأيديولوجي على شركائه في الائتلاف، كوزير الخارجية أفيغدور ليبرمان، أمام ناخبه المحوري الذي منحه كرسي الحكم، وهو ناخب أسير الفولكلور التوراتي بتعمير «أرض الميعاد» ببناء المستوطنات اليهودية الخالصة.

وهنا يتساءل المراقبون: «هل يثق ائتلاف نتنياهو بالرئيس أوباما كملتزم بالسياسة الأميركية الثابتة لستة عقود، وهي تأمين بقاء إسرائيل، خاصة من تهديد قوى جديدة (إيران وحليفتيها حماس وحزب الله) وخطابها الذي أعاد إلى الواجهة الإعلامية تشكيك قوى إقليمية في حق إسرائيل في الوجود أصلا، بل وأحيانا التلويح العلني «بإزالتها من على الخريطة» (كتهديد الرئيس الإيراني محمود أحمدي نجاد، رغم محاولة إعلامه إعادة ترجمة خطابه بشكل أقل تهديدا)؟

وبالمقابل يتساءل المراقبون أنفسهم عما إذا كانت إدارة أوباما، بدورها، تثق بنوايا ائتلاف نتنياهو وبقدرته على عدم عرقلة تنفيذ وعود علنية تقطعها واشنطن على نفسها حتى لا تهدر مصداقية الزعيم الأميركي دوليا، خاصة بين الأمم التي تدين أغلبية شعوبها بالإسلام عقب خطابه البليغ العام الماضي في القاهرة؟

والإجابة، على السؤالين، بالطبع «لا» المشروطة.

فالعلاقة التاريخية بين إسرائيل وأميركا حددتها المصالح الذاتية للبلدين (كل يضع مصلحته الخاصة أولا طبعا) منذ تأسيس الدولة اليهودية؛ ليست المثالية العاطفية التي يروجها الإعلام المؤدلج في كثير من البلدان الناطقة بالضاد والإسلامية (كما اتضح من استقبال المعلقين لخطاب أوباما في القاهرة، رغم خلوه من أي استراتيجية تشير إلى إمكانية وضع خطط ووعود قابلة للتطبيق العملي تقع في قلب مطالب الأمم التي وجه أوباما خطابه إليها: مثل رفع مستوى معيشة الشعوب العربية والإسلامية؛ أو حل مشكلاتها الاقتصادية؛ ناهيك عن ضمان المستوى الأدنى من الكرامة الإنسانية والحقوق المدنية لأغلبيتها التي تعاني من قبضة ديكتاتوريات طويلة المدى؛ وذلك على سبيل المثال لا الحصر).

فمنذ بداية الحرب الباردة - الحرب الكورية وحصار برلين - اختارت حكومات إسرائيل المتتالية، إعلان انتمائها للمعسكر الغربي بزعامة واشنطن وتحويل أرضها إلى قاعدة متقدمة في أي مواجهة مع المعسكر الشيوعي؛ كما وضعت إمكاناتها في خدمة حلف الناتو؛ رغم الصفعة الأميركية التي وجهها الرئيس الراحل داويت أيزنهاور لإسرائيل بعد أن استخدمتها فرنسا ذريعة لإشعال حرب السويس (وجرت بريطانيا إليها بخدعة دبلوماسية معروفة) عقب تأميم الزعيم المصري الراحل الكولونيل جمال عبد الناصر لقناة السويس، (رغم اقتناع أيزنهاور ببطلان قانونية التأميم حسب فتاوى المحامين الدوليين والتجاريين). فإسرائيل (لأسباب معقدة أهمها سيكولوجية الحصار من ذهنية «حارة اليهود») منذ إعلان ديفيد بن غوريون استقلالها عام 1948، تجادل دبلوماسيا وإعلاميا، وعبر مناهج تعليمها بأن «صراعاتها» قضية وجود مهدد وغير مقبول من الجيران. ولذا ابتلعت إسرائيل صفعة واشنطن عام 1956 (كما ابتلع نتنياهو إهانة الزيارة السابقة) وبقيت قاعدة متقدمة للمعسكر الغربي في الحرب الباردة.

في المرحلة نفسها لجأت القيادات الأوتوقراطية للأمم الثقيلة الوزن عسكريا في المنطقة إلى التحالف مع المعسكر الشيوعي (مصر الناصرية، سورية والعراق البعثيان، اليمن قبل وبعد التوحيد)، وحتى بعض الملكيات، والأخرى المستقرة ضمن حلفاء الحرب العالمية الثانية، حولت الانقلابات العسكرية دفتها نحو المعسكر الشيوعي كليبيا والجزائر. ويذكر جيلنا من الصحافيين كيف كانت الطائرات المدنية التي اختطفها «ثوار» منظمات لا تعترف بوجود إسرائيل (ودربتهم مخابرات دول المعسكر الشيوعي) تهبط في مطارات البلدان المذكورة وتجد حماية من أنظمتها «الثورية الاشتراكية».

الموجز التاريخي ضروري لشرح أن المصالح الذاتية المنفردة لأميركا (خاصة أن أيديولوجية ديكتاتورية البروليتاريا الشيوعية تعني تهديد بقاء ديمقراطيات السوق الحر المنتخبة) وإسرائيل (التي رفضت هذه الأنظمة الاعتراف بحقها في الوجود وقتها) هي التي حددت العلاقة الإسرائيلية الأميركية وليس الأيديولوجية أو «كراهية» العرب أو المسلمين كما يحلو لتيارات إسلاموجية وقومجية تفسير العلاقة في بروباغندا سطحية تهدف لعرقلة عملية السلام أو تجنيد الشباب الغاضب، قليل الحظ في التعليم، في تيارات العنف الراديكالي.

الحرب الباردة انتهت قبل عقدين، والرئيس أوباما جاء بخطاب جديد، وإدارته وعسكره يضغطون لحل المشكلة الفلسطينية (كمصلحة استراتيجية وليس من أجل مبادئ إنسانية). ولذا فتصريحاته ودبلوماسية الخارجية الأميركية بزعامة هيلاري كلينتون (وهناك عداء شخصي بجانب تناقض المصالح بين آل كلينتون ونتنياهو) أحدثت هزة عميقة في صفوف المحللين السياسيين الإسرائيليين: الإدارة الجديدة تعيد ترتيب أولويات المصالح. فغياب الحرب الباردة أدى إلى ظهور فجوة لم تتوقعها إسرائيل بين المصالح الدولية للأمتين الأميركية والإسرائيلية.

الإسرائيليون سينتظرون المحطة القادمة، وهي انتخابات الكونغرس في نوفمبر (تشرين الثاني) هذا العام، فربما يضعف موقف الرئيس أوباما داخليا والسياسة الخارجية امتداد للداخل. وفي تقديري لن يغير نتنياهو من سياسته في شراء الوقت حتى هذا الموعد.

ومثل إسرائيل، تنتظر بلدان عربية أيضا - وبعضها يتعمد تأجيل حل القضية الفلسطينية لإلهاء الشعوب عن قضايا أساسية داخلية - حركة أوباما القادمة.. وهذا حديث آخر.