بعد فشل الجولة العشرين لميتشل.. ماذا بعد؟

TT

كما هو متوقع، عاد جورج ميتشل من جولته العشرين إلى المنطقة بخفَّي حُنين، فلم يحصل على الأجوبة الإسرائيلية عن الأسئلة التي سبق أن طرحها وأجاب عنها الرئيس أبو مازن، والتي تتعلق أساسا بالحدود والأمن.

بدلا من تقديم الأجوبة أغرقت حكومة نتنياهو زيارة ميتشل في الإجراءات الإسرائيلية التي «خففت» الحصار عن قطاع غزة، والتي أشاد بها ميتشل، خصوصا بعد أن زار بنفسه معبر كرم أبو سالم وشاهد التغيير بشكل ملموس.

كما تمسك نتنياهو بضرورة الانتقال من المفاوضات التقريبية إلى المفاوضات المباشرة قبل البحث في تفاصيل الحدود. فلا يمكن برأيه أن يبحث الجانبان قضايا جوهرية بـ«الريموت كنترول»، ولا يمكن توضيح الموقف الإسرائيلي الغامض الذي سبّب خيبة أمل لميتشل كما جاء على لسان مسؤول أميركي، من رسم الحدود قبل أن يأخذ تطمينات فلسطينية كاملة بالنسبة للأمن الإسرائيلي.

بدلا من التقدم، الذي لم يتوقعه أحد، حلقت في سماء جولة ميتشل أنباء حول ما قيل إنه اقتراح أميركي يقضي بأن تمدد إسرائيل فترة التجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان، الذي لا يشمل القدس ولا آلاف الوحدات الاستيطانية قيد البناء ولا المرافق العامة، مقابل أن يوافق الفلسطينيون على الدخول في مفاوضات مباشرة.

الجانب الفلسطيني أكد لميتشل مجددا أنه دون إحراز تقدم في المفاوضات غير المباشرة بالنسبة لمسألتي الحدود والأمن، ودون وقف الإجراءات الإسرائيلية المتعلقة بهدم المنازل وإبعاد المواطنين، خصوصا من القدس، ووقف الاستيطان وقفا شاملا، لا يمكن الانتقال إلى المفاوضات المباشرة.

يذكر أن الرئيس الفلسطيني أخبر مراسلي الصحف الإسرائيلية أن الأجوبة الفلسطينية على ملف الحدود والأمن، التي قدمت لميتشل في جولة سابقة، تقوم على التفاهمات ذاتها التي أنجزها رئيس الحكومة الإسرائيلية السابقة إيهود أولمرت، التي تعتمد مبدأ الانسحاب إلى حدود الرابع من يونيو (حزيران) 1967، وتبادل أراض بنسبة 1:1، هذا مع العلم أن الحكومة الإسرائيلية ترفض بدء المفاوضات القادمة من النقطة التي انتهت إليها المفاوضات السابقة، كما ترفض وقف الاستيطان والالتزام بمرجعية واضحة ومحددة لعملية السلام، وهي المتطلبات الثلاثة التي طالب بها الفلسطينيون قبل استئناف المفاوضات غير المباشرة، ووافقوا بعد ذلك على استئنافها رغم عدم تحقيقها، نزولا عند الرغبة الأميركية وانتظارا لتحقق الضمانات الأميركية الوهمية.

اللافت للنظر أن جولات ميتشل، مثلها مثل زيارات أي مسؤول أميركي إلى المنطقة، يرافقها صدور قرارات إسرائيلية تتعلق بمخططات استيطانية جديدة، أو بهدم منازل، أو بإبعاد مواطنين من القدس إلى خارجها، أو من الضفة إلى غزة، وكأن الحكومة الإسرائيلية تجعل الفلسطينيين يدفعون ثمنا لكل زيارة، في تحدٍّ واضح للعيان للإدارة الأميركية التي تدعي بأن الحكومة الإسرائيلية تعهدت لها سرا بعدم الإقدام على ما من شأنه المساس بالمفاوضات وعملية السلام.

اللافت للنظر أكثر، أن القرارات الإسرائيلية الأخيرة، منذ بدء المفاوضات غير المباشرة، لم تعد تواجه بردة فعل أميركية أو دولية قوية مثلما كان يحدث قبلها. وكلنا يذكر الغضبة الأميركية على إعلان إسرائيل عن بناء 1600 وحدة استيطانية في مستوطنة رامات شلومو أثناء زيارة جو بايدن نائب الرئيس الأميركي للمنطقة.

الآن تم الإعلان عن بناء 1400 غرفة فندقية قرب جبل المبكر في القدس، وبلعت الإدارة الأميركية (والفلسطينيون والعرب والعالم) هذه الخطوة مثلما بلعت غيرها من الخطوات الاستفزازية الإسرائيلية التي لا تتوقف ولا ليوم واحد. فالوضع لم يعد حرجا، والمفاوضات التقريبية خففت التوتر وتوحي للجميع بأن عملية السلام ما زالت حية، وأن هناك شيئا قادما على الطريق، وهذا يمنع نشوء فراغ يمكن أن تملأه الخيارات والأطراف الأخرى المناوئة لعملية السلام.

اللافت للنظر أكثر وأكثر، هو أن الفلسطينيين (ونقصد الجانب الرسمي) تعايشوا مع هذا الأمر، وكأن الأمر المهم هو أنهم استطاعوا حتى الآن أن يفلتوا من ضغط أميركي جدي عليهم للانتقال إلى المفاوضات المباشرة.

فحسبما أشارت تقارير موثوقة فإن أوباما أثناء لقائه الأخير في البيت الأبيض مع الرئيس الفلسطيني، لم يطرح طلب الانتقال إلى المفاوضات المباشرة، ولم يضغط من أجله، كما كان مخططا، لأن هناك توصيات من الخارجية الأميركية بعد مجزرة «أسطول الحرية» تفيد بأنه من غير المناسب الضغط على الرئيس الفلسطيني في مثل هذه الظروف.

لقد أظهرت إدارة أوباما نوايا حسنة، ولكنها لم تملك الإرادة الكافية لتنفيذها، وانتهت السياسة الأميركية في عهدها إلى اتخاذ قرارات أسوأ أحيانا من سابقاتها، أو لا تقل سوءا عنها، الأمر الذي أدى إلى تراجع التوقعات والآمال حولها، وإلى سقوط الأوهام بأنها ستطرح مبادرة جريئة لحل الصراع في المنطقة، وأنها ستفرضها على جميع الأطراف.

الوقت يمضي، والساعة «تتكتك»، وشهر سبتمبر (أيلول) القادم يقترب، وهو الموعد الذي تنتهي فيه فترة مسرحية التعليق الجزئي والمؤقت للاستيطان، وتنتهي فيه أيضا المهلة التي منحتها لجنة المتابعة العربية للإدارة الأميركية لإحراز تقدم في المفاوضات التقريبية، والكل يعلم أن هذه المفاوضات لن تحقق اختراقا، وأنها تمثل نوعا من الخضوع للموقف الإسرائيلي.

إسرائيل، التي خرجت منتصرة من معاركها مع إدارة أوباما، لا تكتفي بانتصار ضعيف وغير مستقر، ولا ترتاح للمفاوضات التقريبية لأنها تعطي «للوسيط الأميركي» دورا أوسع. لذلك تصر على استئناف المفاوضات المباشرة، لأنها تمكنها من الاستفراد بالفلسطينيين كليا، دون تدخل أحد، وبلا مرجعية واضحة وملزمة لعملية السلام، ودون وقف السياسة الإسرائيلية الرامية إلى خلق واقع على الأرض يجعل الحل الإسرائيلي أكثر وأكثر هو الحل الوحيد الممكن عمليا. وهو الحل الذي سيفرض نفسه على الأرض إذا وافق الفلسطينيون عليه على طاولة المفاوضات أم لا.

إذن، أفضل شيء متوقع هو استمرار المفاوضات التقريبية وتمديدها لفترة أخرى مع تخلي إسرائيل عن مسرحية التجميد الجزئي والمؤقت للاستيطان، المشكوك أصلا وأيضا باستمرارها بعد إعلان نتنياهو نفسه بأنها تنتهي في شهر سبتمبر القادم، وبعد أن صادق مركز الليكود في اجتماعه الأخير بالإجماع على انتهائها في 26/9 القادم.

أما أسوأ شيء يمكن أن يحدث فهو استئناف المفاوضات المباشرة بعد عقد مؤتمر دولي شبيه بمؤتمر أنابوليس سيئ الصيت والذكر، وهذا إن حدث، تعود حليمة لعادتها القديمة، أي تعود المفاوضات إلى الحلقة المفرغة التي سارت بها منذ توقيع اتفاق أوسلو حتى الآن.

لا مفر إذا أردنا إنقاذ القضية والأرض والإنسان، من مراجعة مسيرة المفاوضات وما يسمى عملية السلام مراجعة عميقة وجريئة، واستخلاص الدروس والعبر، وبلورة استراتيجية جديدة مكافحة تفتح جميع الخيارات والبدائل وتعتمد أولا وأساسا على الشعب الفلسطيني واستنفار قواه وكفاءاته داخل الوطن المحتل وخارجه، وتركز على إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة باعتبار ذلك أولوية قصوى لا تعلوها أي مهمة أخرى.

* كاتب فلسطيني