الصدق في المسرح.. والكذب في أماكن أخرى

TT

في المسرح، بالتمثيل يبدأ عملنا وينتهي به، وعبقرية أي نص مسرحي ليست في قوة ما يطرحه من أفكار، بل في قدرته على إتاحة الفرصة للممثل لكي يستخرج من أعماقه أفضل ما لديه، إنه خطة التمثيل المسرحي. وعدم الالتزام بها نصا وروحا هو تخريب لفن المسرح. ومؤلف المسرح ليس أديبا، فالأدب أداته اللغة، أما المسرح فأداته الأساسية هي الفعل المسرحي. من هنا جاءت تسميته «playwright» بمعني غازل أو صانع مسرح، وليس كاتبا ((writer. ومن الغريب أن اللغة العربية اختارت كلمة «المخرج» وصفا للشخص المسؤول عن تقديم العرض المسرحي مخالفة بذلك الإنجليزية التي تسميه المدير (Director). وفي الفرنسية، واضع المشاهد (Maitre en scene)، وفي الإيطالية RegIsta))، وهي مشتقة من التسجيل. الصفة إذن في اللغات الثلاث تتكلم عن الإدارة وتجسيد المشاهد ثم تسجيلها، غير أن الجيل الأول من المسرحيين العرب على الرغم من استخدامهم لكل مفردات المسرح الفرنسي والإيطالي حتى بين عمال خشبة المسرح، فإنهم اختاروا كلمة «المخرج» التي نفهم منها أنه الشخص المسؤول عن «إخراج» أفضل ما عند المشتركين في العرض المسرحي، من نص وديكور وتمثيل وإضاءة إلى بقية العناصر، وأنا أعتقد أنه اختيار موفق تماما.

أمر آخر ربما نكون قد اختلفنا فيه عن العالم كله، وهو كلمة «المتفرجين». لا يوجد متفرجون في المسرح الإنجليزي أو الفرنسي، يوجد نظّارة (audience) وهي الكلمة التي ستجدها في الروايات والترجمات القديمة. لا بد أنك قرأت من قبل أن النظارة خرجوا من دار «الخيالة»، ويقصد بها السينما، وبعد ذلك ظهرت كلمة المشاهدين ثم الرواد، ثم ظهرت كلمة المتفرج والمتفرجين التي استقرت في وعينا وقواميس عقولنا. إنها تسمية عبقرية توصل إليها اللاوعي الجمعي عند المسرحيين العرب الأوائل. نعم، نحن ندخل المسرح ليس لنشاهد أو لنتعلم بل لنتفرج. الكلمة مشتقة مباشرة من الفرج والتفريج والإفراج.. افرجها يا رب.. البشر جميعا مسجونون في سجن ما، وكل منهم يتعشم أن يصدر قرار بالإفراج عنه، هو إذن يذهب إلى المسرح بأمل أن يصدر قرار بالإفراج عنه.

الفرجة بما تحدثه في النفس من آليات مريحة منعشة، هي أقرب تفسير لكلمة أرسطو الشهيرة التي احترنا جميعا في فهمها، وهي كلمة «catharsis» التي قيل لنا إنها تعني التطهير، أليس معنى الفرجة هو أن تتطهر من كل التوترات في داخلك بفعل الفن المسرحي، أن تنفتح أبواب الزنزانة وأن تنهار أسوار السجن وأن تخرج إلى الحياة حرا طليقا؟!

هو إذن نافذة مفتوحة على الدنيا وعلى مكونات وأسرار النفس البشرية بما فيها من خير وشر، من حب وكراهية، من خبث وذكاء، من نصر وهزيمة، تعرض أمامك في زمن محدد يتيح لك الإلمام بها، ولكن لا نصائح ولا إرشادات ولا تعليمات، لأنك تكره ذلك كله لكثرة ما عانيته من سلطة الأسرة وكل أنواع السلطات التي حولتك إلى سجين. لست في حاجة إلى أن تعيش ألف عام، ستعيشها في العرض المسرحي وربما تعيشها في مشهد عبقري واحد. وبذلك يكون فن التمثيل هو عبقرية الصدق في إظهار الانفعالات والمشاعر الإنسانية، كل ما على خشبة المسرح لا بد أن يشع صدقا مع الذات والجماعة التي جاءت بحثا عن الفرج.

وهنا أذهب إلى هدفي مباشرة من كتابة هذا المقال، وهو أن فن التمثيل ليس هو فن الكذب، بل هو فن تقديم الصدق الخالص على صينية الإيهام، وبالتالي فإن سقوط المسرح في مجتمع ما ليس هو المسؤول عن تحول كل أفراده أو معظمهم إلى كذابين كتعويض عن الظاهرة المسرحية التي افتقدوها في المسرح. الواقع أن العكس هو الصحيح، وهو أن طاقة الأكاذيب في مجتمع ما هي فقط القادرة على خنق المسرح لعدم قدرتها على تحمل طاقة الصدق المنبعثة منه.

القدرة على الكذب في الحياة الواقعية ليست هي فن التمثيل، فالممثل يمثل «لك»، أما الكاذب فهو يمثل «عليك»، وهذا هو الفرق الجوهري بين التمثيل على المسرح والتمثيل في أي مكان آخر. يستطيع أي رجل سياسة أو اقتصاد أو أعمال أن يخدعك وأن ينصب عليك وأن يشملك بقدر من الأكاذيب التي تمنع عنك الرؤية الصحيحة، غير أن كل ذلك لن يجعل منه في النهاية حسين رياض أو زكي رستم أو أحمد زكي. كما تستطيع سيدة أعمال أن تكذب وأن تخدع عددا كبيرا من المسؤولين في البنوك غير أن ذلك لا يجعل منها فاتن حمامة. حتى الآن لا أحد يعرف على وجه التحديد ما الذي يجعل من سعاد حسني.. سعاد حسني.

غير أن المسرح، على الرغم من قوة تأثيره، فإنه في حاجة إلى أكبر قدر من الرعاية والحماية ربما لا تتطلبها الفنون الأخرى. فعلي مر العصور كان الأعداء التقليديون للمسرح هم كل قوى المجتمع وأفراده الذين بنوا مكانتهم على أساس متين من الأكاذيب. هم يكرهون المسرح لأنه يشعرهم بالخطر على ما حصلوه وحققوه. لذلك يزدهر المسرح فقط في الأوقات التي تتولى فيها السلطة حمايته من أعدائه، ليس بالضرورة بسبب حبها وتقديرها للمسرح كفن يثري حياة البشر. فقد كان من المستحيل أن ينجح موليير بغير حماية من ملك فرنسا الذي كان يقود معركة ضد رجال الكنيسة، هنا تقوم السلطة بحماية المسرح بدافع من وحدة الهدف لأن موليير كان في الوقت نفسه يخوض معركته ضد الدجالين المتسترين تحت رداء الدين. كان من المستحيل أن تظهر مسرحية «تارتيف» بغير حماية الملك، قصر باكنغهام أيضا كان المشجع والمؤيد القوي لمسرح شكسبير. كما أن نجيب الريحاني كان من المستحيل أن ينجح في إقامة مسرح يقدم عروضا دائمة بغير دعم من قوى المجتمع من الأعيان وذوي الأملاك والعمد ثم الطبقة الوسطى الصاعدة في مصر، مع الاعتراف بالطبع بموهبته المسرحية الطاغية هو وزميله بديع خيري، بالإضافة إلى باقة الممثلين العباقرة الذين عملوا معه.

وفي بداية ستينات القرن الماضي في مصر ومع ظهور متغير تكنولوجي جديد هو التلفزيون بما يتطلبه من أعمال درامية بكميات كبيرة، ازدهرت موجة جديدة من المسرح تم فيها اكتشاف عشرات الممثلين النجوم والمؤلفين والمخرجين، وتم ذلك كله بدعم قوي ومباشر من الدولة. وبعد هزيمة 1967 بدأت خشبة المسرح تظلم بعد أن اكتشف المسرحيون دورا جديدا له، وهو البحث عن الأسباب التي أدت إلى الهزيمة. باختصار، يغلق المسرح أبوابه عندما لا تتحمس السلطة لحمايته.