مخاض العملية السياسية العقيم في العراق.. إلى متى؟

TT

من أهم مميزات النظام الديمقراطي تبادل السلطة وتداولها بمقتضى نتائج انتخابات دورية نزيهة بين مختلف الأحزاب والكتل والجماعات السياسية.

ولمصداقية الانتخابات ونتائجها آليات ومعايير عالمية، من دونها يفقد النظام الديمقراطي مقوماته، ومن أهمها مفوضية مستقلة للانتخابات ومراقبة عالمية لها.

وهذا النظام وآلياته محايد، قد يرفع كتلة نيابية ضمت إرادات أكبر مجموعة من المواطنين في دورة انتخابية، ويضعها في الدورة الثانية أو الثالثة فيما إذا تخلفت عن تحقيق مصالح الشعب بحياد وعدل، أو اتخذت منهج الاستبداد وتخلت عن المشاركة الجماعية واتجهت نحو إقصاء الآخرين، أو تغلبت نزعة التغيير على إرادة المواطنين، إما لأنهم سئموا الوجوه أو لأنهم يأملون من غيرهم ما هو أفضل. والقبول بالإرادة الوطنية الغالبة في المشتركات الوطنية هو روح هذا النظام، ومن دونه تكون الديمقراطية من الحيل الخادعة.

ومعنى هذا أن النظام الديمقراطي ليس نظاما معقدا وهو من الناحية المعرفية ليس نظاما نخبويا؛ بل يتشارك في فهمه والوعي به وتمييزه عن غيره المختصون بمعرفة الأنظمة السياسية وغيرهم من عناصر المجتمع المدني والجماهير العامة. وهو من الناحية العملية ليس مما تعنى به طبقة اجتماعية دون طبقة أخرى؛ بل يتساوى فيه إرادات الأفراد المواطنين، فالمرجعية الأولى والأساسية في هذا النظام هي الخلاصة الجامعة لإرادات الناس؛ فأينما رست يبدأ هناك المشهد الديمقراطي. وبعبارة أخرى، الإرادة المستخلصة من نتائج الانتخابات هي التي تدير المشهد السياسي للدولة والمجتمع؛ ولكن ضمن مبادئ الدستور وأحكامه؛ أي ضمن التناغم والانسجام مع مصالح الآخرين من الأقلية؛ فهي تفويض ومسؤولية والتزام لا مغانم وهيمنة وإقصاء للآخرين.

والمشكلة الحقيقية في المجتمع العراقي هي أن مثل هذه النظرة لم تتجذر في ثقافة الحكم في العراق؛ بل لا تزال جذور الاستبداد فاعلة ومؤثرة فيه؛ ومن هنا نجد مشهد البحث عن الأعذار في التجربة العراقية الحالية للتشبث بالسلطة وإن كانت خارج المدة الدستورية ومن دون ركيزتها الأساسية وهي البرلمان الذي هو قوام شرعيتها وفاعليتها. ولم تكن هذه أول قارورة تكسر في العراق الجديد؛ فقد أحالوا من قبل البرلمان السابق قبل أن يسلم قيادة النظام إلى البرلمان الحالي؛ وهم يعلمون أن النظام العراقي الجديد هو نيابي برلماني ديمقراطي، فحين يختفي البرلمان يكون النظام مشلولا وغير شرعي، ومع ذلك استمرت السلطة تزعم أنها سلطة القرار لا سلطة تصريف الأعمال، وكسروا قارورة أخرى حين امتنع بعضهم عن اليمين تخلصا من شبهة الجمع الممنوع بين التشريع والتنفيذ؛ ولكن دون أن يسألوا أنفسهم: هل في النظام العراقي الجديد تنفيذ دون تشريع ومراقبة؟

لا أحد من المعنيين بأمن العراق واستقراره ينكر إنجازات المالكي وحكومته في أمرين مهمين؛ أولهما التصدي الحازم للإرهاب. وثانيهما ما قطعه من أشواط في سبيل بناء الدولة العراقية؛ ولكنها من قبيل الواجب ولا شكر عليه، ولو حوكمت هذه الحكومة على إخفاقاتها في تنفيذ برنامجها الوزاري الذي وعدت به، فلن يبقى لها من الشكر شيء يذكر، وقد يلاحقها كثير من اللوم. ولعل المادة الدستورية الفاعلة 140 وتعطيلها لحد الآن والمصالحة الوطنية الجامعة وتجميدها في الثلاجة، في مقدمة هذه الإخفاقات الواسعة.

ولكن الإخفاق الأخطر الذي لا تتحمل الحكومة وحدها مسؤوليته هو فشل الحكومة والعملية السياسية المتجسدة في مراكز القرار والتشريع جميعها، في تقدير الأهمية الاستثنائية لمهمة المرحلة الدستورية التي انتهت بانتهاء المرحلة التشريعية السابقة؛ ولم تحقق هذه المهمة، وأعني بها العمل الجاد الواعي لترسيخ عرف دستوري يعمق ثقافة المشاركة والثقة وينبذ فكرة الاستفراد والاستبداد والاستعلاء، ويجعل مبادئ الدستور وأحكامه هي المرجعية الحاكمة.

فللانتقال من المرحلة الانتقالية إلى المرحلة الاعتيادية مستحقات لم يتحقق منها شيء؛ لذلك طال مخاضها العسير دون أمل بفرج للشعب العراقي المتعطش إلى الحرية والإنصاف. والإشكالات الحالية هي نتائج هذه المسيرة التي لم يتهيأ أصحاب القرار فيها لمغادرة مواقعهم التزاما بمستحقات الديمقراطية.

وأغلب ظني أن الأمر لا يقتصر على السيد المالكي، لأن الخلل أقرب إلى أن يكون بنيويا عراقيا مع مراعاة ما مر به العراق في عهد الدكتاتورية وما بعدها، وأورث كل هذا الكم الهائل من الحذر تجاه الآخر رغم المصير الواحد.

ولا يظنن أحد أني بهذا أروج للقدرية في السياسة، فالسياسات إرادات هادفة. ولكن الخلل الواضح في العملية السياسية العراقية هو أن أطرافها يخلطون بين المشتركات والخصوصيات، ولو قدروا تنوع العراق وتجاوزوا فكرة الوحدة المثالية التي لا تتحقق داخل قبيلة واحدة ولا عائلة واحدة؛ فكيف تتحقق في العراق المثقل بأعباء التاريخ والحاضر؟ واعتبروا يا أولي الأبصار.

* عضو مجلس النواب العراقي السابق